يدور الحديث الدائم عن المعارك الإعلامية الدائرة ضد مصر، وهو أمر لا شك فيه, ولكن الحديث الأكثر جدية هو عن مسئولياتنا نحن فى مواجهة هذه المعارك. ولربما يتجسد هذا الأمر فى قناة الجزيرة وشبكتها وكذلك الظاهرة المسماة التليفزيون »العربي«. وهى محطة تليفزيونية مقرها لندن تصاحبها صحيفة اسمها العربى، كما أن أفقها يحتوى أو يتناغم صياغة وموضوعاً مع مواقع إعلامية أخرى مثل ضفة ثالثة وحكمة... وغيرها. السؤال الأهم إذن هو عن مسئولياتنا الواجبة فى مواجهته وحقيقة عقيدتنا الإعلامية أوفلسفتنا نحن كمصريين بخصوص الإعلام. ولربما يجسد الأمر كله ذلك التناقض بين اسم التليفزيون العربى وماسبيرو. (فالتليفزيون العربي) من القاهرة كان هو اسم أول إرسال تليفزيونى من مصر، وظل كذلك حتى السبعينيات. وكان التليفزيون العربى مثله مثل صوت العرب حقيقة إعلامية فى الشرق الأوسط. فلقد قررت مصر أن عبء الاسم لا ضرورة له، فأُلقى اسم التليفزيون العربى على قارعة الطريق حيث التقطه من لا يستحقه. لم يتوقف الأمر على ترك الاسم، إنما تجاوزه إلى التبرؤ من الاسم. فلقد كان إنتاج التليفزيون العربى من القاهرة غزيراً وضخماً ورائداً. وأنتجت مصر تحت ذلك الاسم ذى الأفق الكبير الملايين من ساعات الإرسال هى البرامج والحفلات والمسلسلات والبرامج الثقافية التى تم بثها من القاهره. وفجأة تذكر المسئولون هذه الثروة الإعلامية المهولة، وبدأ الاهتمام بها فاستعيدت الآلاف من تلك التسجيلات، ولكن السؤال فاجأ الجميع! فإلى أى اسم تعزى هذه الثروة الإعلامية الهائلة من حفلات أم كلثوم لحوارات طه حسين والعقاد؟ وهنا قفزت السياسة والوعى السياسى والانحيازات الثقافية إلى تشكيل القرار. وبدلاً من أن تعزى التسجيلات إلى (التليفزيون العربي) تم استخدام اسم جديد وهو (ماسبيرو زمان)!. وبديلاً عن مثقفى الإعلام كصلاح زكى أو ليلى رستم أو أمانى ناشد وميرفت رجب ظهر مذيعو توضيح المسائل الواضحة, يحرصون بالأساس على تأكيد وجودهم فى عالم تتغير فيه وبسرعة وظائف وأدوار الإعلام. وهكذا فإننا كمصريين ألقينا بالاسم المهيب (التليفزيون العربي) على قارعة الطريق حتى يختطفه أعداء الشعب المصرى والشعوب العربية، بإشراف مسئول سياسى يتلقى الأموال من إمارة نفطية يدخلها صباح كل يوم نصف بليون دولار من ريع النفط والغاز، بينما لا يتجاوز تعداد سكانها عدة عشرات من الآلاف. تفتح الدوحة خزائنها لجبهة النصرة والإخوان وتنظيمات الإرهاب والدم وتمول فى الوقت نفسه أى نشاط ثقافى أو سياسى يدعى الليبرالية او الاشتراكية، فالهدف الاساسى هو أن يقسم المقسم وأن يقطع جسد المجتمعات العربية كلها كما يشتهى الوزان بالرصاص والدم الأحمر القانى مضافا اليه بحار من الحبر وتلال من الكلمات ترتدى قميص عثمان للحريات والعدالة. يبقى علينا تساؤل يحتاج شجاعة فما هى العقيدة السياسية وما هو التوجه الفكرى للإعلام المصري؟ فلا يوجد إعلام مجرد من الانحياز فى قلب تكوينه. ويتساوى فى هذا الجميع من هيئة الإذاعة البريطانية لروسيا اليوم لفرنسا 24 وأوروبا للأنباء. أليست أجهزة الإعلام فى هذه الدول منحازة للتكوينات القومية التى تبث منها؟ ثم ما هو دور الإعلام فى عصر ثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي؟ فمع سرعة وسائل التواصل الاجتماعى حيث تحول كل إنسان إلى مراسل وصاحب رأى مذاع، ازدادت أهمية التدقيق فى الخبر عن طريق شبكات المراسلين ومهنيتهم. فأجهزة الإعلام هى القادرة اليوم على وجود شبكة مراسلين كبيرة تتابع الحدث بسرعة وتدقيق.. تُرَى هل هناك ميزانيات لإنتاج البرامج الوثائقية والعلمية؟ أو ليس هذا ضرورياً وعاجلاً؟ وفى المقابل.. هل تستطيع مصر أن تكون أى شيء إلا دولة مشرقية عربية يتعاظم دورها بقدر اتساع أفقها الفكرى والثقافى العربى فى الأساس، والعالمى فى الرؤية، والعصرى فى التوجه؟ ألا يجب أن تسترد مصر اسم التليفزيون العربى من القاهرة وأن تتحرك فى هذا الإطار؟ فحجم المطلوب من أموال ليس بالضخامة التى تجعله عائقاً، لكن غياب المثقفين عن القيادة وغياب التوجه والجدية والإصرار على الريادة والتوثيق والعلم هو السبب الحقيقى فى الأزمة.. الإعلام المصرى إن أراد الحياة فعليه أن يتلافى الإحساس بضرورة تقبل الركاكة والضآلة خشية استعداء قويً عظمى. فذلك الموقف هو السبب الحقيقى فى غياب الإعلام من القاهرة، وهو غياب لا يمكن استمراره فى ظل عالم يعاد تشكيله، فقوة مصر الحقيقية هى فى شعبها، وفى الشعوب العربية التى تنحاز تلقائيا لمصر إن جدت السير واستشعرت صدق صوتها. إن استرداد التليفزيون العربى من القاهرة بمجموعة صغيرة من كوادر مهنية وسياسية تتلافى الندرة النسبية المحلية ضرورة عاجلة. وهكذا فإن كوادر سياسية إعلامية مصرية وعربية من المنامة لمراكش مرورا بالقاهرة ودمشق هو بداية صحوة إعلامية واجبة فهى ركن غائب فيما يدور من معارك تطحن شعوب العرب وتزيف وعيهم. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعى