فى أهم أعمال نجيب محفوظ الروائية - فى تقديرى الثلاثية، تتعدد الأجيال ابتداء من جيل 1919 وانتهاء بالجيل الذى سبق قيام ثورة يوليو 1952 مباشرة، وهو الجيل الذى انقسم ما بين نقيضين هما أقصى اليسار وأقصى اليمين. وكان هذا التضاد ممثَّلًا فى شخصيتى أحمد شوكت «الشيوعى»، وعبد المنعم شوكت «الإخوانى». ويجلس كمال عبد الجواد (الذى يمثل- نجيب محفوظ - جيل ما بعد ثورة 1919) مع ابنى أختيه ليطمئن عليهما فى الحبس، ويدور حوار بينه وبين عبد المنعم شوكت عما يؤمن به، فيقول له عبد المنعم شوكت: «إنى أؤمن بالحياة والناس، وأرى نفسى ملزمًا باتباع مُثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسى ملزمًا بالثورة على مُثلهم ما اعتقدت أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الثورة الأبدية». هذه الجمل التى قالها الشاب الإخوانى تشير إلى المبادئ الكبرى التى تتجسد بها رؤية العالم التى تنبنى عليها روايات نجيب محفوظ وقصصه القصيرة وسردياته المسرحية على السواء. وهى رؤية تؤكد التزامه الوجودى والاجتماعى على السواء، كما تشير إلى مسئولية المثقف والمبدع خصوصًا فى إيمانه بالحياة والناس، وكيف يتبع مثلهم العليا ما دام يعتقد أنها الحق، ويتمرد عليها عندما يشعر أنها لا تحقق الأحلام والقيم التى يكتمل بها حضور الإنسان الفاعل فى الوجود. وتقوم هذه الرؤية على ثلاثة مبادئ أساسية تشبه فى عددها ثلاثية نجيب محفوظ التى تجمع فى جزئها الأخير ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار لتصل ما بينهما وغيرهما فى نوع من الجدل بمعناه الفلسفى، ولتصل إلى هذه المبادئ الكبرى، وهي: الحرية أولًا، والعدالة ثانيًا، والعلم ثالثًا. والحق أن كل إبداع نجيب محفوظ يدور حول هذه المبادئ الكلية التى لا تفارق كتابات نجيب محفوظ من بداياتها إلى نهاياتها. ....................... أما قيمة الحرية: فهى أهم القيم فى تربية نجيب محفوظ الذى شهد ثورة 1919، وهو فى الثامنة من عمره، وابتدأ يعى الحياة مع شعاراتها التى كانت تطالب بحرية الوطن والمواطن أولًا، كما كانت تؤكد كل القيم المتفرعة عن مبدأ الحرية بمعناها الليبرالى الذى كان يتبناه حزب الوفد. وهو معنى يؤكد معانى الحرية سواء فى جوانبها الفردية الخاصة بالعقيدة أو فى جوانبها الاجتماعية أو جوانبها السياسية. وقد شهد نجيب محفوظ فى صباه الدماء التى أُسيلت فى ثورة 1919 دفاعًا عن استقلال الوطن وحريته وخلاصه من الاستعمار، وعبر ممارسة الكتابة التى امتدت على أكثر من نصف قرن، مؤسسًا معانى متعددة للحرية أولًا بوصفها مسئولية اجتماعية لكل ساع إلى الانتقال بمجتمعه من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، وهو الأمر الذى يعنى الانتقال بالإنسان من سجن العبودية إلى أفق التحرر الذى يكمل معنى الحضور الإنسانى. والوجه الاجتماعى لهذه الحرية هو اللازمة المنطقية لوجهها السياسى، خصوصًا فى وعى من يرى التسلط السياسى والديكتاتورية الحزبية شكلًا من أشكال الضرورة وعقبة إنسانية لا بد من مجاوزتها تحقيقًا لقيم المشاركة والتعددية، وتأكيدًا لحضور معانى الاستقلال لا التبعية التى هى الوجه الآخر من الاتّباع. وقد ترتب على هذا الفهم، النظر إلى الحرية بوصفها مسئولية اجتماعية أيضًا، وذلك ما ظل المبدع حالمًا أن يكون الذى لم يكُنه، أو يكتب الذى لم يكتبه، فحريته شرط استقلاله الذى لا يجعل منه صورة مكرورة أو نسخة كربونية أو محاكاة لإبداعات سابقة، صنعها هو أو صنعها غيره. وأولى علامات الحرية الإبداعية هي: المجاوزة المستمرة، والمراجعة الدائمة لتقنيات الإبداع وأدوات إنتاجه، فضلًا عن علاقات استقباله، وذلك بما يضع كل من يدخل فى دائرة الإبداع موضع المساءلة الدائمة المستمرة التى لا تتوقف عند حد، فالإبداع مساءلة حرة، غير مشروطة إلا بأهداف الإبداع الذاتية، وهى الارتقاء الدائم بالإنسان، والتمكين له فى عالم الابتكار الخلاق الذى يصنعه المبدع بإبداعه. ولذلك ظل إبداع نجيب محفوظ تمرُّدًا على الضرورة بالحرية، ونبذًا للثابت بالإبحار فى المتغير، واستبدالًا للنسبى بالمطلق، والمتحرك بالساكن، ومساءلة الذات التى تنقسم على نفسها لتغدو فاعلًا للإبداع وموضوعًا له. ولا حرية فى الإبداع لمن لا يعرف تثوير أدوات توصيله، أو يقنع بتقبل تقنيات الفنون والآداب تقبُّل المذعن التابع. وهذا ما تؤكده لنا رحلة نجيب محفوظ الإبداعية، فهى رحلة لم تتوقف عند مرحلة بعينها ولا عند اتجاه أدبى واحد ولا حتى عند مذهب أدبى، فهذه الحرية التى كان ينطوى عليها نجيب محفوظ هى الأصل فى فعل مساءلته الخلاقة فى كل عمل من أعماله. ولذلك بدأ بالتاريخ الفرعونى ليكتب فيه ثلاثة أعمال، هى: «رادوبيس» و«عبث الأقدار» و«كفاح طيبة». وكلها أعمال تمجِّد قيمة الحرية ابتداء من «عبث الأقدار» التى تؤكد مسئولية الحاكم فى تقبل ما يراد له ولوطنه فى آن، مرورًا ب «رادوبيس» التى تؤكد حرية الشعب فى الثورة على الحاكم الفاسد اللاهى الذى لا يرعى مصالح شعبه، فيضطر هذا الشعب إلى الثورة عليه كى يحقق حياة كريمة تعنى حرية الوطن والمواطن فى آن. ومن «رادوبيس» إلى «كفاح طيبة» التى تؤكد ضرورة الكفاح من أجل حرية الوطن (طيبة) وعدم التخاذل فى نيل هذه الحرية مهما كانت التضحيات والدماء التى تبذل فى سبيل هذه الحرية، فالرواية كلها تدور حول استعمار الهكسوس لمصر، وكفاح الشعب المصرى لهذا الاحتلال الأجنبى، وحلمه بقائد يقوده للتحرر من هذا الاستعمار، وهو ما حدث مع أحمس الفرعونى، تمامًا كما حلم الشعب المصرى بأن يقودهم قائد هو سعد زغلول الذى قادهم فى ثورة 1919 تحقيقًا لأحلامهم فى التحرر من كابوس الاستعمار البريطانى. ويمضى هذا الحلم اللاهب بالحرية متضمنًا روايات المرحلة الاجتماعية التى لا يتوقف فيها نضال الثائرين على فساد الوزارات المتعاقبة بحثًا عن وزارة تحقق لهم حرية الوطن وما يقترن بها. وعندما جاءت ثورة يوليو 1952 توقف نجيب محفوظ ليدرس المجتمع الجديد، وانتهى من تأمله إلى غياب الحريات السياسية والاجتماعية، فشرع القلم من جديد لمهاجمة الفتوات الذين تحكموا فى الحارة المصرية (الوطن) مطالبًا بالعدل لأبناء الحارة الذين ضاقت صدورهم بالظلم، وظلوا يتحملون البغى فى جَلد، ويلوذون بالصبر ويستمسكون بالأمل: «وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: «لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين فى حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب». هكذا دفعوا كاتبهم للتعبير عن آلام المعذبين فى الحارة. وبدا الأمر فى ذلك الوقت كما لو كان نشر «أولاد حارتنا» احتجاجًا إبداعيًّا على سجن كُتّاب اليسار المصرى فى 1959 وإلقائهم فى المعتقلات الوحشية مما لا يمكن غفرانه بأية حال من الأحوال. ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينشر نجيب محفوظ «اللص والكلاب» عام (1960) التى استلهمها من حادثة واقعية صار اللص فيها بطلًا لأنه صارع زبانية السُّلطة، ومضى فى طريق الثأر من الخائن الذى علَّمه مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية، وكان أول من تخلى عنها، كما فعلت زوجته وعشيقها الذى كان ذراعه اليمنى. وتأتى بعد «اللص والكلاب» رواية «السِّمان والخريف» (1961) مؤكدة ضياع الوفدى القديم الذى أنكره العهد الجديد، فلم يجد ملاذًا فى النهاية سوى التخبط الذى ينتهى بالتطلع إلى ظلمة البحر المواجه لتمثال سعد زغلول، واقفًا بجوار شاب مبتسم «يمسك بيسراه وردة حمراء». فيبدو المشهد كما لو كان اليسارى الذى يضع فى عروته وردة حمراء، ويقف تحت تمثال سعد زغلول،لا يزال متطلعًا إلى ما يفتقده فى مجتمعه من الحرية ومعاناة الظلم الذى يتمثل فى غياب العدل والكرامة الإنسانية للفرد. وتأتى «الطريق» (1962) استمرارًا للبحث عن قيم الحرية والكرامة والسلام التى لا يجدها «صابر» الذى ظل يبحث عن أبيه، كى يجد فى كنفه الاحترام والكرامة والتحرر من ذل الحاجة. ويظل «صابر الرحيمى» على امتداد الرواية رمزًا للحرية والكرامة والسلام والحب على السواء، شأنه فى ذلك شأن «الشحاذ» (1965) الذى ضل طريق الثورة، فانزلق فى متاهات الصوفية والجنس والجنون، لعله يجد حريته أو يصل إلى نور أو يقين، يجيب أسئلته الحائرة التى يبحث عن إجابات لها. وقس على ذلك بقية روايات الستينيات التى عادت إلى النقد الاجتماعى السياسى، ولكن من خلال المساءلة الفلسفية التى تقرع كل الأسرار الميتافيزيقية بالأسئلة التى لا تبين بسهولة عن مغزاها أو إجاباتها، فتضطر الكتابة إلى أن تصوغ المسكوت عنه قمعًا - بواسطة الرموز التى تقول ما لا يقال، فتتحول «العوامة» مثلًا - فى «ثرثرة فوق النيل» (1966) إلى ما يشبه «الحارة» التى لا نسمع فيها إلا ثرثرة على ألسنة حشاشين، لا يختلفون جذريًّا عن الذين قابلناهم فى «أولاد حارتنا» الذين لا يزالون، مثلنا، يحلمون بمشرق النور والعجائب، ولا يملكون سوى الحلم حتى لو خالطته الكوابيس والأوهام والخيالات الكنائية، فهذا قدرنا، نحن «أولاد حارتنا» أو سكان العوامة الذين ظننا أن الخلاص قريب، فإذا به محض سراب. العدل: ولا يقل العدل أهمية عن الحرية فى عالم نجيب محفوظ، فلا معنى لوجود الحرية فى غياب العدل السماوى والأرضى على السواء. فالعدل ليس أساس الملك فحسب، وإنما هو أساس العلاقة بين الخالق والمخلوق فى هذا الكون، فلولا أن الخالق قد منح المخلوق الحرية كى يفعل ما يريد، ويختار ما يشاء، لما كان لحساب الخالق للمخلوق معنى أو مغزى. فلا شيء مقدور أو مفروض على هذا المخلوق إلا إرادته الحرة التى يحدد بها طريقه، ويمضى فى عمارة الكون أو المجتمع الذى يعيش فيه، خصوصًا بعد أن منحه الخالق العقل الذى ميزه به عن بقية مخلوقاته، وجعله أى العقل - حجته عليه، بحيث يتحقق معنى العدل فى الثواب والعقاب على أفعال الإنسان فى الحياة الدنيا، وبحسب الطريق الذى يختاره الإنسان فى حياته، إن خيرًا فخير أو شرًّا فشر. هذا عن العدل السماوى. أما عن العدل الإنسانى، فهو الخاصية التكوينية الأساسية فى عالم الإنسان، حيث الضرورة المطلقة لتحقيق الكرامة الإنسانية بواسطة العدل الذى يعنى عدم الظلم الاجتماعى الذى يدمر معانى الخير فى المجتمع الذى يتحول فى غياب العدل- إلى غابة ينهش فيها الأقوى الأضعف، ويتحكم فيها الأغنى فى مصير الأفقر وحياته على السواء. والعدل - فى رؤية عالم نجيب محفوظ - لا يختلف كثيرًا عن دلالات العدل عند طه حسين الذى كان يراه أى العدل- حقًّا لكل مواطن، فكرامته وتحقيق متطلبات حياته الفردية والاجتماعية على السواء حق وليس منحة أو عطية. وعبر امتداد روايات نجيب محفوظ ابتداء من أول أعماله إلى آخرها يظل العدل مبدأ وخلاصًا، كما يظل غيابه سببًا للثورة الجماعية للأمة حين تعانى من أقصى درجات الظلم نتيجة الفساد الذى يمارسه الفتوات فى «الحارة» رمزًا أو حقيقة. وهذا ما يظهر أثره فى روايات المرحلة الاجتماعية فى محاولات أبناء الطبقة الوسطى التسلق الفردى الذى يضطرون إليه لكى ينتقلوا إلى وضع أفضل داخل مجتمع تتزايد فيه الفوارق بين الطبقات، ويغدو الظلم - كهيمنة الطبقات العليا - شعارًا لمجتمع طبقى تحتكر الثروة فيه قلة قليلة فى مقابل أغلبية مسحوقة من الفقراء. ولم تكن هذه المشكلة، المأساة، مؤرقة لمرحلة من مراحل كتابة نجيب محفوظ فحسب، وإنما كانت همًّا ينسرب فى كل المراحل والتحولات. ولم يكن من قبيل المصادفة والأمر كذلك- أن يتحول أبطال المرحلة الاجتماعية على وجه التحديد «القاهرة الجديدة»، «خان الخليلى»، «بداية ونهاية»، «زقاق المدق» إلى أبطال مأساويين، تنتهى محاولاتهم فى الصعود إلى الطبقة الأعلى بالمأساة التى تتمثل فى الانتحار أو الموت أو القتل، فهم أبطال يمثلون طبقة مهانة اجتماعيًّا، فى مجتمع طبقى لا يرحم، ولا يسمح لأفراد طبقاته بأى نوع من الحراك الاجتماعى أو حتى التسلق الطبقى، خصوصًا لأبناء البرجوازية الصغيرة. العلم: ويبدو العلم من هذا المنظور- خلاصًا وحلًّا لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولذلك لم يكن من الغريب أن نسمع قول أحمد راشد فى «خان الخليلى» يؤكد أنه «كما أنقذتنا الديانات من الوثنية، ينبغى أن ينقذنا العلم من الديانات». وأحمد راشد هو النقيض الذى يواجه أحمد عاكف، ودلالات الأسماء لافتة دالة على انحياز الكاتب المضمر فى نص الرواية. أعنى الكاتب الذى يختفى وراء قناع آخر من أقنعة شخصياته ليقول: «اعلم أن لكل عصر أنبياءه، وأن أنبياء هذا العصر هم العلماء». والحق أننى أريد أن أجتهد فى فهم معنى العلم فى سياق روايات نجيب محفوظ، فالعلم ليس مقصوا على معنى العلم التجريبى فحسب، وإنما يتسع معناه ليشمل كل علم إنسانى أو اجتماعى يخاطب عقل الإنسان وتؤكده مخترعات العلم التجريبى الحديث الذى لا يكف عن التطور، والذى يفضى تطوره المذهل إلى تغيير فى كل عقائد الإنسان. وإذا كانت روايات نجيب محفوظ فى شبابه تشكك فى إمكانيات التوازن بين الدين والعلم، فإنها تسعى فى «أولاد حارتنا» إلى تحقيق هذا التوازن عن طريق العلاقة بين المعنى الرمزى لل «جبلاوى» (الدين) والمعنى الرمزى ل «عرفة» (العلم). فعرفة هو الساحر الذى يعتبر الوريث الأنبل فى سلالة الجبلاوى، فهو يَعِد أبناء «الحارة» بالعدل وبالحرية والسلام، فضلًا عن كل القيم الإيجابية التى تقترن بحضور الجبلاوى. ولذلك يطارد «فتوات الحارة» «عرفة» الذى يقرنونه بصفة «الساحر» كناية عن الإنجازات المعجزة التى يحققها علميًّا، وهى إنجازات تعود بالفائدة على كل أبناء «الحارة» التى ترمز للإنسانية كلها. أعنى الإنسانية التى يقودها العلم الحديث يومًا بعد يوم إلى ما يشبه المعجزات، ويدفعها إلى أن تعيد طرح الأسئلة الكبرى على نفسها، وذلك فى الفعل الخلاق للإنسان عندما يزداد معرفة بأسرار الكون الذى يعيش فيه، فضلًا عن كشفه عن المخبوء وراء كل الرموز والكتابات التى يقرنها نجيب محفوظ ب «عرفة» الذى يضعه الفتوة «حنش» موضع الاتهام ظلمًا، مع أنه يعرف - قبل غيره - أن الإيمان بعرفة لا يتناقض والإيمان بالله أو الخالق الأعظم، أو حتى بحضور «الجبلاوى» السارى فى كل أجيال الحارة. هكذا يوازن نجيب محفوظ بين الإيمان بالله والإيمان بالعلم، فكلاهما ابتداء من «أولاد حارتنا» - ليسا نقيضين وإنما قطبان متوازيان يحققان معًا سلام البشرية وتقدمها فى آن. هذا التوازن هو ما نراه فى الروايات التى جاءت بعد الستينيات، والتى تكشف عن معناها الواضح ابتداء من «المرايا» (1972) التى تهاجم التشدد الدينى فى شخصية سيد قطب، وهو هجوم يعنى ضمنًا الانحياز إلى الإسلام السمح، وليس التشدد الذى يتحول فى آخر الأمر إلى فجر كاذب سوف يطويه صدى النسيان. وأستدرك فأقول: إنه حتى هذا العنصر الدلالى موجود فى روايات نجيب محفوظ منذ البداية. ولنتذكر مثلًا شخصية (حسنين) فى «بداية ونهاية» الذى يفرح عندما يعرف من كتاب قرأه أنه لا تناقض بين الإسلام والاشتراكية التى تقترن بالعلم الحديث. لكن من الضرورى أن نلاحظ أن هناك فارقًا فى وعى نجيب محفوظ ورؤيته للعالم، بين العلم الذى يُسهم فى تقدم البشرية والعلم الذى يدمر البشرية، فالعلم الأول، هو: العلم الإنسانى الذى يؤدى إلى تحقيق كل أحلام العدل والحرية، أو مشرق النور والعجائب. أما العلم الثانى، فهو: العلم الذى يستخدمه الطغاة الذين يتخذون أقنعة كأقنعة هتلر وموسولينى وأمثالهما من دعاة الإرهاب الدينى كى يدمروا البشرية. وطبيعى أن يصطدم الخطاب العلمى المتغير بسرعة متزايدة مع الخطاب الدينى التقليدى الذى لا يتغير بالسرعة نفسها مع متغيرات العصر العلمية وتكنولوياته، متسارعة الإيقاع فى التغير، بل يميل إلى الجمود والثبات وعدم الحركة. وسواء أكنا نتحدث عن العلم بمعناه التجريبى أو معناه العقلى الذى يعنى الالتزام بمبادئ منطقية صارمة، فإن الصدام بين العلم والدين لا بد أن يقع فى روايات نجيب محفوظ التى لا تتوقف عند الحياة الاجتماعية بمعناها العملى، وإنما تمتد إلى التأمل من خلال الوقائع الملموسة فى الدنيا التى نعيشها إلى ما وراء هذه الدنيا حيث تكمن الحقيقة المطلقة التى تضىء معرفتنا بها أيًّا كان نوع هذه المعرفة - حياتنا فى واقعنا ومستقبلنا على السواء. والبحث عن هذه الحقيقة هو موضوع بالغ الأهمية فى كتابات نجيب محفوظ ابتداء من «الثلاثية» مرورًا ب «دنيا الله» و«الطريق» و«الشحاذ» و«أولاد حارتنا» و«الحرافيش» إلى «العائش فى الحقيقة»، وهى الرواية التى تتحدث عن «إخناتون» (الذى كان أول من دعا إلى التوحيد)، وتصوّر حقائق عالمه ومعتقداته من خلال مرايا متعددة تؤكد نسبية الحقيقة التى يصوغها البشر عن حياتهم الدنيا. وبقدر ما كان نجيب محفوظ يبحث عن الحرية والعدل، كان يبحث عن توازن دائم بين العلم والدين، وذلك على نحو يجعل الإنسان يوازن بين جوانب حياته المادية والروحية فى آن. فهذا التوازن هو السبيل الوحيد لاختراق «قلب الليل» والوصول إلى الحقيقة التى تسعى إليها «رحلة ابن فطومة». والمؤكد أن اهتمام نجيب محفوظ بهذه المبادئ الكبرى الثلاثة، هو الذى جعله يقظًا إلى أبعد حد فى مراقبة تغيرات المجتمع المصرى فى كل مراحله التى عاصرها، خصوصًا فى الهزات الكبرى التى حدثت له. وأولاها: الهزة التى أحدثتها هزيمة 1967، فدفعته إلى أن يلجأ إلى تقنيات «اللامعقول» أو «العبث» فى أوروبا، كما حدث فى مجموعتى «تحت المظلة» و «خمارة القط الأسود». وثانتها: الزلزال الذى لا نزال نعانى من آثاره المرعبة، وهو زلزال الإرهاب الدينى الذى وضعه نجيب محفوظ موضع المساءلة بحثًا عن العلة والدواء فى رواياته الأخيرة، ابتداء من مجموعة «التنظيم السرى» (1984)، وليس انتهاء ب «يوم قتل الزعيم» (1985). ولهذا كله لم يكن نجيب محفوظ مجرد مراقب سلبى للمجتمع، وإنما كان ناقدًا يحلل هذا المجتمع باحثًا عن الأسباب التى تجعل منه الثائر الأبدى على مجتمع الضرورة، والمُبشِّر الأبدى بمجتمع الحرية والعدل والعلم الذى سوف يقودنا إلى المزيد من الحرية والأمن والسلام المقرون بالتقدم المستمر فى «حارتنا» التى لا تزال تبحث عن من ينقذها من الكوارث التى تهددها، فيريها مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب. لمزيد من مقالات جابر عصفور