بدأ اهتمامى ببحث العلاقة بين الأصولية والعلمانية منذ تولى الرئيس السادات السلطة وإعلانه التعاون مع الإخوان المسلمين من أجل القضاء على الناصريين واليساريين والشيوعيين. ففى 1976 أجريت حوارات مع أساتذة فى جامعة هارفارد بناء على دعوة من إدارتها. وكان من بين هؤلاء هربرت كيلمان أستاذ علم النفس الاجتماعي، ودار الحوار حول عدة قضايا فى مقدمها الصراع العربى الاسرائيلي. وسألنى عن تصورى الفلسفى لحل هذا الصراع، وكان جوابى أن العلمانية هى الحل. واندهش كيلمان قائلاً: هذا حل أسمعه لأول مرة. وتأتى أهمية كيلمان من أنه كان مرافقاً للسادات فى رحلته للقدس. وفى عام 1979 أصبحت على وعى بأن ذلك العام هو عام الأصوليات الدينية، إذ فيه أصدر الرئيس الأمريكى الأصولى جيمى كارتر قراراً بتدعيم الأصولية الاسلامية فى أفغانستان بقيادة طالبان فى حربها ضد الاتحاد السوفيتي، وفيه تأسست فى ايران الجمهورية الأصولية الاسلامية بقيادة آية الله الخميني، وفيه انتخب الشاذلى بن جديد رئيساً للجزائر لتدعيم الأصولية الاسلامية، وفيه تأسس الحزب الأصولى المسيحى تحت عنوان الغالبية الأخلاقية بقيادة القس جيرى فولول. وفى عام 1988 عقدتُ ندوة فى برايتون بانجلترا تحت عنوان الأصولية والعلمانية فى الشرق الأوسط. وفى عام 1995 أصدرت كتاباً عنوانه الأصولية والعلمانية. وفى عام 1997 شاركت فى حوار لويزيانا بكوبنهاجن بالدنمارك وأعلنت فيه أن الشرق الأوسط محكوم بأصوليات ثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلام، وهى كلها فى حالة تصادم. فإذا أردنا سلاماً فيلزم تأسيس تيار علمانى يخرج منطقة الشرق الأوسط من الأصولية ويُدخلها فى العلمانية. وفى منتدى ابن رشد عقدنا ندوته الأولى فى عام 2006 تحت عنوان تأسيس العلمانية فى مصر، و بعد ذلك توالت ندوات المنتدى فى هذا المسار. وفى عام 2015 أصدرت كتاباً عنوانه «الأصولية وارهابها» جاء فيه أن الأصولية تدعو إلى إبطال إعمال العقل فى النص الدينى ومن حيث هى كذلك تدخل فى علاقة عضوية مع ما أطلقت عليه مصطلح الرأسمالية الطفيلية. والمقصود بهذا المصطلح توظيف رأس المال فيما هو غير مشروع مثل تجارة المخدرات وبيع الأسلحة للميليشيات المسلحة المنشقة عن مسار الحضارة العلمانية الحديثة. وكان من شأن هذه العلاقة مولد الإرهاب وبذلك يكون لدينا آفة بشرية ثلاثية الأبعاد: الأصولية والطفيلية والإرهاب. ما سبق تمهيد لفهم ما يدور فى عقل الصحفى جمال أحمد خاشقجى الذى قُتل فى القنصلية السعودية باسطنبول بتركيا فى 2/ 10/ 2018. ففى 19/ 9/ 2017 نشر هذا الصحفى الذى كان يكتب عموداً ثابتاً فى جريدة «واشنطن بوست» منذ عام 2017 مقالاً فى جريدة الحياة تحت عنوان دكان العلمانية وهو دكان خطر على حد تعبيره. والسؤال إذن: ما المناسبة فى ذكر ذلك الدكان؟ ولماذا هذا الدكان خطر؟ المناسبة، عنده، تكمن فى تصريح للسفير الاماراتى لدى أمريكا جاء فيه: أن بلاده والسعودية تريدان مستقبلاً علمانياً للشرق الأوسط. ثم استطرد قائلاً: إن الزج بمفهوم العلمانية وبخاصة فى السعودية سيربك تلك العلاقة المريحة بين الأسرة الحاكمة والوطنية السعودية والتى يستفيد منها الطرفان إذ إن السمع والطاعة أساسهما اسلامى ذلك أن الحاكم هو ولى أمر المسلمين, وهو أيضاً الامام وهى مزايا لن توفرها العلمانية بل تنقضها تماماً فهى لمن يعرفها تقوم على أساس الفصل بين «الدين والحكم». والسؤال إذن: ماذا تعنى هذه العبارات التى كتبها خاشقجي؟ إنها تعنى أن عقل صاحبها عقل أصولى مغموس فى فكر الفقيه ابن تيمية من القرن الثالث عشر الذى يشترط السمع والطاعة أو بالأدق إبطال إعمال العقل ودفعه إلى أن يكون فى مستوى الحواس. وإذا كان الارهاب هو أعلى مراحل الأصولية الدينية فالأصولى عندئذ يكون ارهابياً، ومن هنا شاع مصطلح الارهاب الأصولي. وعندما شاع فى العالم الاسلامى قيل الارهاب الاسلامي. وعندما تبدأ السعودية فى زمن الملك سلمان وولى العهد الأمير محمد بن سلمان فى التطور السريع من أجل التحرر من الأصولية والاندفاع نحو العلمانية يصرخ خاشقجى قائلاً: لماذا هذا التحرر؟ إنه مزعج للسعوديين بدعوى أنهم يستمتعون بعلاقة مريحة بينهم وبين حكامهم. والمغزى أن الأصولية مريحة والعلمانية مزعجة. وفى هذا المعنى يكون خاشقجى خارج الحضارة لأن مسار الحضارة مزعج بالفعل لأنه ينقلها من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلاني. وهذه النقلات بالفعل لم تكن بالأمر الميسور، إذ استندت إلى ثورات فكرية وفى مقدمها الثورة العلمانية فى القرن السادس عشر فى أوروبا والتى كان من إفرازاتها هذه الرباعية: الاصلاح الدينى والعقد الاجتماعى والتنوير والليبرالية. وهذه بدورها أفرزت ما نحياه الآن فى سياق الثورة الصناعية الرابعة التى تستند إلى الثورة الإلكترونية. وبعد ذلك يبقى سؤال: ما العمل مع هؤلاء الأصوليين من أمثال خاشقجي؟. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة