المقصود بالخطاب الدينى أو الثقافى هو الأفكار، والقيم التى يتوجه بها الفقهاء، والدعاة والمثقفون والفنانون إلى الجمهور العام، أى أنه هو وسيلة التواصل بين العالم والمتعلم، بين الداعية وجمهور المتدينين، بين المثقف والشعب، بين الكاتب والقارئ، بين المتحدث والمستمعةوهذا يستلزم أن يكون الطرف المرسل ملما بعقلية المستقبل، وباحتياجاته، وبما يريد أن يعرف، وباللغة التى يفهمها ويتفاعل معها. هناك علاقة عضوية بين تجديد الخطاب الثقافي، وتجديد الخطاب الديني، فتجديد الخطاب الدينى مقدمة ضرورية لتجديد الخطاب الثقافي، لأن القيم والأفكار الدينية هى التى تشكل ثقافة الفرد والمجتمع، وتحدد توجهاتها، فالخطاب الدينى المغرق فى التعلق بالماضى سيقضى حتما على ثقافة الإبداع والابتكار والتخطيط للمستقبل، والخطاب الدينى الذى يبالغ فى الغيبيات لن يساعد على ظهور ثقافة عقلانية رشيدة ةالخ، لذلك لابد من تجديد الخطاب الديني، ومعه يسير بالتوازى تجديد الخطاب الثقافي، على أن تكون المبادرة من الخطاب الديني. وهنا التجديد يستوجب أن يكون الفكر الدينى والثقافة نابعين من الواقع، مناسبين له، مصلحين لأحواله، محققين لسعادة الإنسان ومصالحه، واستقرار المجتمع وتقدمه. فتجديد الخطاب الديني، أو الثقافى يعنى أن نعالج مشكلات الناس الذين نعيش معهم، وأن نتناول هموم المجتمع؛ بما يحقق مصالح المجتمع، لا أن نأتى بأفكار ميتة من التاريخ ونلقيها على الناس، ونطلب منهم أن يهجروا زمانهم، ويعيشوا فى زمن مضى وانقضى من مئات السنين؛ حتى يكونوا مسلمين مؤمنين أتقياء، ولا أن نأتى بأفكار قاتلة ومميتة من مجتمعات تختلف عن مجتمعنا اختلافات كبيرة؛ ونطلب من المجتمع والناس أن يتبنوا هذه الأفكار حتى يكونوا حداثيين ومعاصرين وعلى الموضة. وهناك العديد من التيارات التى توظف مفاهيم، ودعوات التجديد لمصالحها الإيديولوجية، أو الحزبية الضيقة فالتجديد بالنسبة لها يعنى التخلص من خطاب مرفوض لفرض خطاب آخر مقبول، بغض النظر عن المجتمع والناس، فالتجديد للإسلاميين الحزبيين يعنى التخلص من خصومهم الأيديولوجيين من المتصوفة، أو العقلانيين أو العلمانيين، والتجديد بالنسبة للتيارات اليسارية والعلمانية والحداثية فيعنى التخلص من الدين بكل مكوناته وتجلياته، وتقليد التجربة الأوروبية والسير على طريقها فى كل شيء، وتحرير الإنسان من الدين والقيم والعادات التى هى فى نظرهم بالية، أى أن التجديد عند هؤلاء وأولئك هو إلغاء منظومة ثقافية كاملة لتحل محلها منظومة أخرى، وهذا ليس تجديدا، وإنما نوع من الهدم. وعلى الرغم من وجود بعض الأصوات التى تتخذ من مظلة وشعار تجديد الخطاب الدينى ذريعة لتفريغ الدين من محتواه، ونزع القداسة عنه، والقضاء على سلطانه القيمى والأخلاقي؛ ألا أنه لا يعقل اتخاذ هذا ذريعة للحفاظ على خطاب دينى متخلف، بعيد عن الواقع، يعيق تقدم المجتمع، بل يدفعه إلى التفكك، والدخول فى حالة صراع الكل ضد الكل.... وهنا ينبغى أن يكون تجديد الخطاب الدينى مركزا على القضايا الأساسية؛ التى تحتاج إلى تجديد الرؤية والمنهج والفهم مثل: العلاقة مع غير المسلمين، وحقوق المسيحيين، وموضوع المرأة، والتعامل مع العصر بكل منتجاته الفكرية والمؤسسية والتنظيمية، والفنون ة.الخ، وكل القضايا التى يجمع العقلاء فى المجتمع على أنها أصبحت تمثل مشكلة، وعائقا أمام استقرار المجتمع وسعادة الإنسان. وهنا يجب أن يتم التجديد من قبل المؤهلين من ذوى الاختصاص، القادرين على تقديم رؤية تجديدية فى كل قضية على حده، ثم بعد ذلك يتم تحويل هذه الرؤى إلى مادة ثقافية، وفنية يتم تداولها فى صورة حوارات، أو أعمال أدبية، أو فنية، أو سينمائيةة. الخ، أى أن الأفكار التجديدية يجب أن تخرج من ذوى الاختصاص، ولكن عملية التجديد يقوم بها جميع المثقفين القادرين على تفعيلها. فالعلاقة بين تجديد الخطاب الديني، وتجديد الخطاب الثقافى عضوية بنائية؛ يستحيل فصلهما، ويستحيل أن يتم تجديد أحدهما قبل الآخر، أو دون الآخر، فالرؤية التجديدية الثقافية تمثل مقدمة أساسية لعملية تجديد الفكر الديني، وتجديد الفكر الدينى أو الخطاب الدينى تطلق عملية التجديد الثقافى من عقالها، وتفتح الأفق أمامها، وتزيل العقبات والسدود أمام الإبداع والنشاط العقلى البناء. كذلك فإن المنتج النهائى لتجديد الفكر الديني؛ لابد أن يخرج فى صورة منتجات ثقافية مثل المسلسلات والأفلام، والإنتاج الأدبى بكل أشكاله، وذلك لأن ترسيخ القيم والأفكار الدينية يتم بصورة أكثر فعالية إذا تجاوز الوعظ والخطابة والتلقين. إذن نحن فى حاجة الى عملية تجديد عقلى شاملة؛ تستوعب تجديد الفكر والثقافة والخطاب الديني، وهذه العملية بطبيعتها لا تقبل التجزئة. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف