عقب تأميم قناة السويس وردا على العدوان الثلاثى صدرت قرارات التأميم والتمصير فى عامى 1956و1957.ومثلت هذه القرارات نقطة تحول فى تكوين وتوسيع قطاع الأعمال المملوك للدولة؛ سواء بملكية الدولة للمشروعات المؤممة والممصرة، أو بتوفير التمويل للاستثمار الجديد فى هذا القطاع. وقد بلغ دخل الدولة عن طريق تأميم وتمصير رءوس الأموال الانجليزية والفرنسية واليهودية فى الشركات والبنوك مع دخل قناة السويس نحو 35 مليون جنيه فى عام 1958. وقد مثل ذلك المبلغ نحو 124% من اجمالى نصيب الدولة فى اجمالى الاستثمار القومى، ونحو 20% من اجمالى رءوس الأموال المستثمرة فى الصناعة. وأسجل أولا، أن مصر لم تسترد معظم ما يسمى بديون مصر على انجلترا، أو الارصدة الاسترلينية المصرية، أو الاحتياطى النقدى المصرى فى بنك انجلترا، إلا بمقايضتها برءوس الأموال البريطانية التى جرى تأميمها. ولم تكن تلك الديون سوى نهب استعمارى سافر، ترتب على اخطار من (بنك انجلترا)! الى المحافظ (الانجليزى) للبنك الأهلى المصرى (الانجليزى؛ رأسمالا وإدارة) فى 14 أغسطس 1916, وبموافقة الحكومة المصرية بخطاب أرسله مستشارها المالى (الانجليزى)! بأن يكون إصدار البنكنوت المصرى مضمونا بأذونات الخزانة البريطانية بدلا من الذهب!! وعلى أساس القرار المذكور قام البنك الأهلى المصرى بموجب تعليمات من بنك انجلترا! بإصدار ما يلزم من الجنيهات المصرية- لتغطية نفقات القوات البريطانية وغيرها من قوات الحلفاء خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية- مقابل أذونات خزانة بريطانية تحتفظ بها السلطات النقدية البريطانية فى لندن لحساب مصر! وقد تراكمت الديون المصرية على بريطانيا, وهى الديون التى تمثلت دفتريا فى أرصدة استرلينية مملوكة لمصر بلغت نحو 575 مليون جنيه استرلينى خلال الحربين العالميتين فقط. وبقيت الأرصدة مملوكة دفتريا لمصر ومحتجزة فعليا لدى بنك انجلترا، رغم الحاجة الملحة لتوظيفها فى تمويل النهوض الصناعى الوطنى عقب الحربين. ولحقت بمصر خسائر مالية جسيمة نتيجة شروط بريطانيا للافراج عن قسم من الأرصدة بعد الحرب العالمية الثانية, اضافة الى خسائر الفرق بين القيمة الحقيقية للسلع والخدمات وقت تقديمها وقيمتها النقدية عند السداد الفعلى. وثانيا، أن أهمية تمصير البنوك تتضح ليس فقط من دورها فى تحويل المدخرات المصرية الى الخارج على حساب احتياجات الاستثمار فى التنمية والتصنيع، وانما أيضا فى دورها السلبى الذى لعبته فى حرب السويس؛ حين وظفت سيطرتها لتشديد الضغوط الاقتصادية على مصر. وكانت البنوك التى خضعت لقرارات التمصير والحراسة تسيطر على نحو 54% من اجمالى ودائع جميع البنوك التجارية فى عامى 1955 و1956. وكما أشارت نشرة البنك الصناعى فى عام 1957، فان السياسة الائتمانية للبنوك الأجنبية قد حابت الأجانب؛ فأقرضت بغير ضمانات على حساب المصريين، وشجعت تمويل التجارة مع بلدان معينة، وركزت على الاستثمارات القصيرة الأجل، واقراض بعضها البعض، وبلغت حصتها نحو 45.9% من الاستثمارات القصيرة الأجل لجميع البنوك التجارية العاملة بمصر، ونال الأجانب نحو 72 % منها. وفى المقابل لم تتعد استثماراتها شاملة أسهم وسندات الشركات نحو 29% من اجمالى الاستثمارات الطويلة الأجل فى مصر، نال الأجانب نحو 72 % منها، وانفرد بنك مصر بنحو 94 % من اجمالى نصيب جميع البنوك التجارية فى جميع الشركات المساهمة الصناعية فى عام 1956. أضف الى هذا، أن بنك مصر قد انفرد فى ذات العام بنحو 72 % من جميع الاستثمارات المصرفية الطويلة الأجل فى مصر بدون حساب حصته فى سندات الدولة. وبتمصير البنوك تمكنت مصر من تعديل السياسة الائتمانية للبنوك، بحيث تستجيب لمتطلبات التصنيع. وثالثا، أن دخل مصر من التأميم وفَر فرصة تنفيذ مشروعات اقتصادية كبرى فى مقدمتها السد العالى، بجانب ما بادرت الدولة باقامته بالمشاركة مع القطاع الخاص فى اطار المجلس الدائم لتنمية الانتاج القومى الذى بعد شهور من ثورة يوليو وقبل أيام من صدور قانون التمصير رقم 20 لسنة 1957 اتخذ قرارًآ بانشاء المؤسسة الاقتصادية، وانتقل اليها نصيب الدولة فى الشركات المساهمة الأجنبية. وقد أنيطت بالمؤسسة مسئولية استثمار أموال الدولة فى الصناعة وغيرها من فروع الاقتصاد؛ سواء عبر التأسيس أو المشاركة أو التوسع. ومع التمصير لم يسمح لأى مساهم بامتلاك ما يزيد على 5% من اسهم أى شركة، فاحتفظت المؤسسة بحصة مسيطرة من الاسهم فى جميع الشركات المهمة. وبالاضافة لاستحواذها على حصة ما سمى بالأعداء فى20 شركة وبنكا، امتلكت معظم رأس المال فى 19 شركة وبنكا. وقد سجل الدكتور اسماعيل صبرى عبدالله فى كتابه عن تنظيم القطاع العام: أن تمثيل المؤسسة فى مجالس ادارة الشركات التابعة كان لابد ان يتناسب مع حصتها فى رءوس الأموال، وكان كافيا استحواذ أى رأسمالى على 15% كى يسيطر على الشركة وادارتها. وربما كان هذا النقد تبريرا لقوانين التأميم الاشتراكية فى بداية الستينيات، التى دشنت التحول من اقتصاد السوق الموجه الى التوجه الاشتراكى. وخامسا، أن المؤسسة الاقتصادية قد ضمت 52 شركة صناعية بلغت رءوس اموالها الاجمالية نحو 68% من اجمالى رءوس أموال التى امتلكتها فى جميع فروع الاقتصاد، فى نهاية 1958، وتراوحت حصة المؤسسة بين نحو 39% و79 % فى الشركات الصناعية. ومع نهاية 1960 أضحت تضم 64 شركة استحوذت الشركات الصناعية 80 % على رءوس أموالها، ومثَل رأس مال الأخيرة نحو 47% من اجمالى رءوس الأموال الشركات المساهمة الصناعية فى مصر. وقد تضاعفت الاستثمارات الجديدة للمؤسسة بنحو أربع مرات فى عام 1959 مقارنة بعام 1957، ونالت الصناعة 70 % من اجمالى الاستثمارات الجديدة، ومنها مشاركتها فى تأسيس خمس شركات فى الصناعة التحويلية. وقد عملت المؤسسة على مواصلة تطوير الصناعات الثقيلة التى تأسست بمشاركة الدولة بعد عام 1952، وامتد نشاطها ليشمل جميع الفروع الصناعية، ومنها تأسيس الشركة العامة للبترول، التى مثلت أول شركة وطنية فى صناعة استخراج النفط. وقد اتسع نطاق التأميم فى بداية الستينيات ليشمل الرأسمالية المصرية، وعبر التأميم والاستثمار الجديد فى برنامج السنوات الخمس للصناعة، ثم فى الخطة الخمسية الأولى وبرامج الاستثمار العام بعدها صار القطاع العام مهيمنا على الاقتصاد القومى فى بداية السبعينيات. لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم