هل يجوز تكفير طه حسين عندما يقول: «لا ينبغى أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الأحاديث، وإنما ينبغى أن يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله، أريد أن أقول إن هذه الأشعار لا تثبت شيئا ولا تدل على شىء، ولا ينبغى أن تتخذ وسيلة إلى ما اتخذت إليه من علم بالقرآن والحديث»؟ قد يبدو الكلام للوهلة الأولى صادما إذا ما احتكمنا إلى العقل السلفى الكامن فينا رغما عنا بحكم التنشئة ونظم التعليم العربية، وقد نحتشد للهجوم لمجرد أنه كلام يمس القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف مهما يكن محاولا الانتصار لهما وفصلهما عن الشعر الذى سعى القرآن نفسه فى غير موضع لنفى صلته به وكذلك الرسول الكريم. ولذا فإن فهم هذا الكلام لا يمكن أن يكتمل إلا فى سياق القراءة الإجمالية للنص «فى الشعر الجاهلى»، ومعرفة دوافع طه حسين لوضع هذا الكتاب، والمنهج الذى استخدمه، والوقوف على أبعاد القضية إجمالا، وأخيرا نص القضاء التاريخى - لرئيس نيابة مصر آنذاك محمد نور. بدأت المعركة بمجرد صدور الكتاب بعدة بلاغات متتالية للنائب العمومى تتهم الكتاب وصاحبه بالطعن فى القرآن العظيم والتعدى على الدين ونسب الرسول عليه السلام، بدأها الشيخ خليل حسنين (الطالب بالقسم العالى بالأزهر) فى 30 مايو 1926م، وتلاها خطاب فضيلة شيخ الجامع الأزهر وإرفاقه التقرير الذى أعده علماء الأزهر يؤكدون التهم فى 5 يونيو، وكان آخرها بلاغ عضو مجلس النواب عبدالحميد البنان فى 14 سبتمبر. واستطاعت هذه الدعاوى القضائية الحصول على أمر النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع وإيقاف توزيعه، بعد أن أثارت الصحف المصرية المعركة على صفحاتها باستضافة آراء المعارضين والمؤيدين، فهاجمه مصطفى صادق الرافعى وفند آراءه فى مقالات عدة بعنوان «تحت راية القرآن» نشرتها جريدة «كوكب الشرق»، وتم جمعها فى كتاب بعد ذلك، ودافع عنه أحمد لطفى السيد بدعوى حرية الفكر، ورد عليه الرافعى، وأعاد الكرة لطفى السيد، وهكذا بدأت سلسلة من المعارك الأدبية والفكرية حول طه حسين إجمالا، وحول آرائه، وحول حرية الفكر والعقيدة، وغيرها من القضايا التى لم تزل تدور الثقافة العربية فى فلكها حتى وقتنا الراهن. انتهت أزمة الكتاب، ورحل طه حسين، ولم يستطع دفاع لطفى السيد ولا حكم القضاء المصرى بتفنيد وإسقاط كل التهم من أن ينهى معركة الوعى فى الشعر الجاهلى، بل لم تنته عبر المائة عام الأخيرة حتى يومنا هذا، ويكفى تتبع الأبحاث والدراسات والكتب والمؤلفين، ومنهم: الخضر حسين «نقض كتاب فى الشعر الجاهلى»، ومحمد لطفى جمعة «الشهاب الراصد»، ومحمد الخضرى «محاضرات فى بيان الأخطاء العلمية التاريخية التى اشتمل عليها كتاب فى الشعر الجاهلى»، وتلميذه محمود محمد شاكر فى كتابيه «المتنبى» و «قضية الشعر الجاهلى فى كتاب ابن سلام»، وأنور الجندى «محاكمة فكر طه حسين»، ومحمد فريد وجدى «نقد الشعر الجاهلى»، وإبراهيم عوض «معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين»، وخالد العصيمى «موقف طه حسين من التراث الإسلامى»، ووائل حافظ خلف الله «مجمع البحرين فى المحاكمة بين الرافعى وطه حسين»، وآخرهم صابر عبدالدايم «بين الرافعى وطه حسين تحت راية القرآن». ولعله من العجيب فى زماننا هذا أن نجد من يقرأ كتب الهجوم دون أن يقرأ الكتاب الأساس الذى توجه إليه كل هذا الهجوم، ويمضى مع فكره دون أحكام مسبقة، ليرى بنفسه أى اتجاه يسلك؟ يطرح الكتاب فى إجماله أسئلة جوهرية، مثل: أهناك شعر جاهلي؟ وما السبيل إلى معرفته؟ وما هو؟ وما مقداره؟ وبم يمتاز عن غيره؟ يقول: «إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية فى شيء، وإنما هى منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين «ص 19»... « العصر الجاهلى القريب من الإسلام لم يضع، ونستطيع أن نتصوره تصورا واضحا قويا صحيحا ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر بل على القرآن من ناحية والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى «ص 20». المنهج الذى يستخدمه طه حسين لدراسة ذلك هو منهج «ديكارت» أبو الفلسفة الحديثة، والذى يقوم على الشك العقلى للوصول إلى اليقين، مما يقتضى بداية رفض المسلمات والتجرد من الأفكار السابقة، والتدرج فى الأفكار من الأبسط للأعقد. وقد تدرج البحث لموضوعات وأفكار الكتاب من مناقشة صحة الشعر الجاهلى، واستمرت مع تأكيد ضرورة تلمس الحياة الجاهلية فى القرآن لا فى الشعر: «لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر «ص27». ثم ناقش علاقة الشعر الجاهلى باللغة، ورأى أن هذا الشعر لا يمثلها، فكل الأدلة التاريخية تؤكد أن العرب قسمان: عدنانية (عرب مستعربة ومنهم سيدنا إسماعيل ونسله)، وقحطانية (اليمن، عرب عاربة، حمير)، ولا يمكن أن يكون القسمان لغتهم واحدة كما وصلنا، وهو ما توصل منه أن هذا الشعر موضوع بعد الإسلام. وكذلك الأمر بالنسبة لعلاقة هذا الشعر باللهجات، فإذا كان الرواة يجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجات قبل ظهور الإسلام، فكيف يكون شعرهم الجاهلى بهذا الاتحاد عند تحليله، وشعراء المعلقات على اختلافهم نموذج لغوى واحد كأنهم أبناء قبيلة واحدة. وينتقل طه حسين فى القسم الثانى من كتابه لمناقشة أسباب انتحال الشعر، وأولها: أن الانتحال لم يكن مقصورا على العرب، فقد سبقهم فى ذلك اليونان والرومان، وإن كانت هناك دوافع أخرى لدى العرب دفعتهم لذلك، وثانيها: المزج بين الدين والسياسة (العصبية والمطامع والدين) مما دفع القبائل العربية لأن يكون قديمها فى الجاهلية خير قديم. وثالثها: انتحال الشعر على الجن لإرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة فى كل شيء: «وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التى تثبت فيما بقى لنا من أشعار القصاص، فلديك فى سيرة ابن هشام وحدها دواوين من الشعر نظم بعضها حول غزوة بدر..» وهى الأشعار التى نسبت إلى الصحابة رضوان الله عليهم، واعتمدها طول الزمان. ورابعها: اختلاق القصص فى مساجد الأمصار حول قديم العرب والعجم وما يتصل بالنبوات، كل ذلك لمصلحة السياسة. وخامسها: انتحال الشعوبيين لكثير من الأخبار والأشعار، بسبب الحقد الذى أضمره الفرس بعد تحولهم من غالبين يستخدمون العرب إلى مغلوبين يستخدمهم المسلمون: «وكذلك كانت الخصومة بين الأحزاب العربية تبيح للمغلوبين الموتورين من الموالى أن يتدخلوا فى السياسة العربية وأن يهجوا أشراف قريش وقرابة النبى «ص119». وسادسها: مجون الرواة وإسرافهم فى اللهو والعبث وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق «ص 131»، ومنهم حماد الراوية وخلف الأحمر. ويستكمل الكتاب فى قسمه الثالث مع الشعر والشعراء، لمناقشة كيف أن أخبار الجاهليين وأشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة، وإنما وصلت إلينا من الطريق التى تصل منها القصص والأساطير: «طريق الرواية والتكلف والانتحال والفكاهة واللعب، وبالتالى يشكك فى بعض شعراء هذه العصر لعدم وجود معلومات مؤكدة عنهم من جهة، وللضعف الفنى الظاهر فى شعرهم من جهة ثانية، وللتناقض بين نسبهم ولغتهم من جهة ثالثة. على هذا النحو يمكن النظر إلى الأفكار الكبرى التى طرحها طه حسين فى كتابه، وكما قال محمد نور فى رده على كل التهم إن الغرض من الكتاب كان للشعر الجاهلى، وأن الجمل لا يجب اقتطاعها من سياقها.ويظل السؤال: هل انتهت قضية الوعى بشأن ما ناقشه طه حسين فى كتابه؟