لأنه كان شاعرا عظيما تلتف من حوله القلوب عندما يكتب قصيدة بالعامية، أو زجلا يصحى النائم ويوقظ المشاعر ويلملم الجراح ويجمع الأهل والأصحاب فى حلقة سهر وشجن ودموع وكبرياء وشموخ فى حب مصر، التى نسيناها فى غمرة بحثنا وجرينا وراء لقمة العيش.. كما عشنا طول عمرنا عبر قرون وسنين بلا عدد نتعب ونعرق ونزرع الأرض حبا ونرويها هياما وتسبيحا وشعرا.. ونقيم صرح حضارة تسد عين الشمس نفسها وعين الحسود والحقود وكل العوازل معا.. وما أكثرهم فى زماننا هذا وزمن من قبلنا.. وزمن من يأتى من بعدنا.. فالعين لاتحسد إلا حسنا وإلا جمالا لمن علا وتكبر وتجبر وجلس يغنى وحده موال الخلود.. وهذا هو قدر مصر.. كما قال لى أيامها العزيز الغالى صلاح جاهين زميل عمرى فى الأهرام أعرق الصحف وأخلدها ولو كره الكارهون.. غرفته كانت إلى جوار غرفتنا نحن الصحاب: عبدالوهاب مطاوع ومحمد زايد وابراهيم عمر وحسين غانم وسعيد عبدالغني.. نحن عشرة وهو وحده فى غرفته فى المبنى القديم الذى شهد ميلاد وعظمة وخلود الأهرام فى باب اللوق.. أيام الزمن الجميل.. الذى كان حقا جميلا وسيظل جميلا فى أذهاننا وذاكرتنا وفى ذاكرة صاحبة الجلالة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. أوبريت « الليلة الكبيرة» لصلاح السقا إنه عمنا وتاج راسنا صلاح جاهين الشاعر الغنائى ورسام الكاريكاتير الذى لايتكرر قلمه ولا تتكرر ريشته ولا حضوره الطاغي.. إذا حضر.. وإذا تكلم وإذا رسم وإذا غنى إحدى قصائده الشعرية بالعامية.. وكأنه وحده هو الحاضر وهو الجالس وهو المتكلم.. دون أى مبالغة فى القول.. إذا أسعدك زمانك بأن تكون ضمن صحبته يوما أو حتى ساعة زمان واحدة.. وقبل أن تسألوني: ما الذى جعل عمنا صلاح جاهين يمر بخاطرك الآن ويستولى على أفكارك؟ الجواب ببساطة: لأننا أيها السادة والسيدات نعيش هذه الأيام فى أعياد مولد النبى الكريم، نبى الاسلام ورسول السلام والأمان محمد بن عبدالله صلوات الله عليه ورضوانه.. وأنا شخصيا ممن قد أسعدهم زمانهم بزيارته والوقوف على بابه فى المدينةالمنورة.. نحو عشر مرات على الأقل.. إن لم تكن أكثر.. مصليا وراكعا.. وشاكيا وداعيا وباكيا.. وقد يسأل سائل: لماذا باكيا هذه؟ وأقول: للحق فاننى فى كل مرة أقف بباب الرسول الكريم فى المدينةالمنورة إلا ويهتز منى الجسد كله بل وينتفض غصبا عنى لسبب لا أدريه حتى كتابة هذه السطور.. وتنزل من عينى دموع لا أدرى من أين أتت ولا متى تتوقف؟ *** على أى حال.. فإننى شخصيا أعتبر نفسى محظوظا عندما صاحبت عمنا صلاح جاهين فى جولات روحانية بزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين.. فى ليالى «موالدهم» التى يطلقون عليها «الليلة الكبيرة» وهو نفس الاسم الذى كان يحمله أوبريت صلاح جاهين الشهير والذى لحنه عبقرى النغم الشرقى الأصيل الذى لايتكرر والذى اسمه الشيخ سيد مكاوى. والمولد النبوى الكريم الذى تحتفل به مصر كلها قراها ومدنها.. ناسها الطيبين فى الريف والحضر.. خلال أيام قليلة.. ليس المولد الوحيد الذى يعشش فى قلوب ووجدان شعب مصر كله، ولكن هناك إلى جواره حسب أرقام واحصائيات وزارة الثقافة 2850 «مولدا» مسلما وقبطيا.. عدد زوارها يتجاوز الخمسين مليون إنسان كل سنة.. ياخبر.. وياخبر هذه من عندى أنا! نحن الآن داخل زحام أمة لا إله إلا الله فى مولد الحسين رضى الله عنه انزوينا جانبا.. وجلسنا على مقهى «الأفندية» فى ميدان الحسين فى مواجهة المقام الذى يضم رأس سيدنا الحسين بن سيدنا على بن أبى طالب بوابة الاسلام كما يطلقون عليه ..والذى نام صبيا فى فراش الرسول الكريم.. تضليلا لكفار مكة الذين كانوا يلاحقونه حتى لايذهب إلى «يثرب» وهو اسم المدينةالمنورة أيامها.. بصحبة سيدنا أبوبكر الصديق رفيقه فى رحلة الجهاد الأكبر من أجل اعلان قيام دولة الاسلام منها لأول مرة.. { { ملحوظة من عندى: عندما ذهبت إلى الحج لأول مرة فى السبعينيات.. طلبت من وزارة الاعلام أيامها أن تسمح لى بتكرار رحلة الرسول الكريم مع رفيقه فى الكفاح أبوبكر الصديق من مكة إلى المدينة على ناقتين، لكنهم رفضوا.. وكررت الطلب نفسه فى عام 1981 للملك خالد بن عبدالعزيز ملك السعودية أيامها.. على أن نركب من مكة للمدينة.. ناقتين.. أركب أنا ناقة سيدنا أبوبكر والزميل العزيز أحمد بهجت الكاتب الاسلامى المعروف ناقة سيدنا رسول الله تكريما له على كتابه الرائع: «أنبياء الله».. ولكن الملك خالد اعتذر لنا أيامها بحجة أن الجو حار علينا واقترح أن نذهب بسيارة مكيفة.. خوفا علينا من شمس مكة.. ورفضنا بأدب شديد العرض الملكى سنتها.. انتهت الملحوظة.{{ *** «يلعلع» عمنا وتاج راسنا صلاح جاهين ويتحول إلى زائر غريب يادوب نازل من القطر دوغرى مع طوابير الوافدين من كل مدن وقرى مصر وكفورها ونجوعها وهو يدندن: ليلتنا أنس وجلجلة.. غنى ولعلع ياوله. وربما كان ذلك أول بيت فى أوبريت الليلة الكبيرة الذى كتبه هو ولحنه لنا عبقرى الموسيقى الشرقية الأصيلة والموالد والأفراح والليالى الملاح الذى اسمه سيد مكاوى.. عمنا صلاح جاهين بريشة الفنان سليم عزوز عمنا صلاح جاهين سارح فى عالم تانى.. هو يدندن أمامى الآن : حمص.. حمص حمص.. عجمية باللوز.. أراجوز.. كانت هذه فيما يبدو بداية كلماته وأشعاره ليلتها فى أوبريت الليلة الكبيرة الذى لم يكن قد خرج إلى الوجود بعد.. فاجأنى هو بقوله: أصل أنا بعيد عنك طلع فى دماغى أألف «أوبريت» عن الليلة الكبيرة.. قلت له: بس ويلحنه سيد مكاوى عبقرى الألحان والأغانى والمواويل الشعبية، قال: والله فكرة.. أنا هاتصل بيه دلوقتى بس ألاقى تليفون فين فى الزحمة دي؟ { { ملحوظة: لم تكن الموبايلات أيامها قد غزت مصر كما غزتها الآن.. قلت له: وهو انت خلاص خلصت تأليف الأوبريت؟ قال يومها: لسة شوية.. قلت له وأمة لا إله إلا الله تملأ الميدان أمامنا: تيجى نعفر؟ قال: يعنى إيه؟ قلت له: تاخد معايا نفسين تومباك على الشيشة واللا تاخد واحد قهوة مع واحد معسل معتبر يعمر الطاسة؟ قال: وجب..(وكلمة وجب هذه عند صلاح جاهين معناها: نعم) *** وجاءت القهوة وجاءت الشيشة وجاء التومباك وجاء المعسل.. ومع أنفاس بريئة هادئة قلت له: سأقرأ عليك ما قالته زميلة لك فى مجلة صباح الخير شقيقة روزاليوسف التى خرجت أنت منها إلى الأهرام عن الموالد.. اسمها: عبير صلاح الدين.. هى تقول: تبقى الموالد جزءا من تاريخ المصريين وعاداتهم وتقاليدهم أيام الفاطميين.. إقامة الكثير من قباب الأضرحة لآل البيت وأولياء الله الصالحين فى مصر، وإقامة الموالد والاحتفالات التى تقدم فيها صنوف الأطعمة والحلوى للفقراء، ترغيبا للمصريين لاعتناق مذهبهم الشيعى من ناحية وربط حكمهم بالدين، ولإلهائهم عما يدور فى بلاط الحكم من ناحية أخري، عملا بالمثل الشعبى الذى يقول: «إطعم الفم تستحى العين». واستمر هذا الهدف السياسى حتى العصر الأيوبى والمملوكى والعثماني، فأمر صلاح الدين الأثيوبى ببناء ضريح كبير للإمام الشافعى سنة 574 هجرية، وأقيمت له الموالد والاحتفالات التى مازالت تقام حتى الآن، وجدده الأمير عبدالرحمن كتخدا فى العصر العثماني، وبنى له قبة كبيرة من خشب الساج الهندي، لتكون أكبر قبة خشبية فى مصر، كما يوضح د. مختار الكسبانى أستاذ الآثار بجامعة القاهرة. وفى العصر المملوكى شيد الظاهر بيبرس ضريحا للسيد البدوى، لدوره فى معركة المصريين ضد حملة لويس التاسع عام 1249 ميلادية، الذى اسروه فى دار ابن لقمان فى المنصورة وجدد قبته على بك الكبير فى العصر العثمانى. وأقيم فى نفس العصر ضريح للسيد أحمد الرفاعى أشهر المتصوفة فى القاهرة، ويقع الضريح فى قصر القبة «قبة الرفاعى» وشيدت والدة الخديو اسماعيل له مسجدا يحمل اسمه فى ميدان القلعة، ويقام حوله مولده كل عام.. ومدفون فيه الملك فاروق وشاه ايران كمان. وعندما بنت أسرة محمد على قصر القبة ضمت إليه قبة وضريح الرفاعى لربط حكمهم بأولياء الله الصالحين. ولكن لماذا أصبحت الموالد جزءا من التاريخ الشعبى والحقيقى للمجتمع المصرى على مر العصور.. أنتم تسألون؟ الجواب هنا للدكتور فارس خضر المدرس بأكاديمية الفنون هو يقول: ترجع أهمية إقامة هذه الموالد، لأنها ميراث حضارى يخلق حالة من التسامح الشعبى ويقلل من الاحتقان الطائفى لأن المسلمين والمسيحيين يشاركون بعضهم البعض فى كل موالدهم، كما أنها تحافظ على عادات شعبية من الاندثار، وتصنع تكافلا شعبيا بين الأغنياء والفقراء الذين يأتون إلى الموالد أملا فى تناول طعام نذور الأغنياء. *** نزلنا نتمشى وسط الزحام.. وعمنا صلاح جاهين يدندن إلى جوارى وهو فى عالم آخر.. «شفت فى منام صاحب المقام.. ده أوبهه.. ويمامة حايمة عليه تسبح ربها.. يانور النبي.. يانور النبى».. أنا هنا أبادله النشيد.. قلت له لأوقظه من سرحانه فى ملكوت الموالد وقد أخذته الجلالة: ألا تعرف ياعمنا أن لدينا آلاف الموالد غير مولد الحسين هذا ومولد السيدة زينب ومولد العذراء فى درنكة بأسيوط، ومارى جرجس الذى يقام له مولدان بميت دمسيس بالدقهلية وبكفر الدوار فى البحيرة، ومولد القديسة دميانة بمحافظة الدقهلية، ومار مينا بالصحراء الغربية. وموالد المتصوفة الرفاعى فى القاهرة والشاذلى فى البحر الأحمر ومولد السيد البدوى فى طنطا، وعبدالرحيم القناوى وأبوالحجاج الأقصرى فى الصعيد، وموالد أولياء الاسكندرية : أبوالعباس المرسي، وأبوالقاسم القبارى وسيدى جابر، وأغلبهم جاء من بلاد المغرب والأندلس، بحسب كتاب بدائع الزهور لابن إياس. وفى المقابل هناك موالد صغيرة تقام على مستوى الأحياء أو القري، مثل مولد السيدة عائشة والإمام الشافعى والشيخ الدندراوى بحى الخليفة، وسيدى أبوالسعود فى المقطم. وعلى فكرة عندما كنت صغيرا ياعم صلاح كنت أذهب إلى مولد سيدى أبوالسعود فى جبل المقطم مع أبى وأخى صلاح ومعنا كل سيدات القناطر الخيرية اللائى لم يحملن بعد.. وكنا نتدحرج فوق تل من الرمال ومعنا السيدات الراغبات فى الحمل.. والغريب انهن كن يحملن عندما يعدن إلى بيوتهن! وللأسف لايوجد أى أثر لمقام هذا الولى فى المقطم الآن! *** قلت لعمنا صلاح جاهين مداعبا لست وحدك يانور العين الذى قدم أعظم أوبريتا عن الموالد.. فقد سبقك قدماء المصريين الذين عرفوا الموالد كما يشير عمنا سليم حسن فى كتاب «تاريخ الموالد» إلى أن احتفالات قدماء المصريين كانت غنائية راقصة، تكريما للآلهة التى رزقتهم الحصاد والماء والشمس، والخلف الصالح، وامتدت للاحتفاء بالقديسين فى مصر القبطية. لكن باحثين آخرين يرون أن البداية الحقيقية للموالد جاءت مع الفاطميين، الذين بنوا أضرحة لآل البيت وأولياء الله الصالحين فى مصر الإسلامية، وأقاموا لهم الاحتفالات الشعبية. وشهد العصر الفاطمى «358 568» هجرية احتفالات هائلة بالموالد فى بر مصر كله وأضاف المصريون إليها من فنونهم وأفكارهم التى لم تخل منها أمثالهم الشعبية، مثل «مولد وصاحبه غايب»، «انفض المولد وركب الخليفة»، «طلع من المولد بلا حمص»، «لا خاب من زار الأعتاب»، «كل شيخ وله طريقة». «مادام ما انتش رفاعى بتمسك الثعابين ليه»، «اللى عليه ندر يوفيه»، «خلى البساط أحمدى» نسبة للسيد أحمد البدوى. *** زاغ منى خلف ضريح سيدنا الحسين عمنا صلاح جاهين.. ولكن أين أعثر عليه وسط هذا الزحام الخانق؟.. ولكنه ظهر أمامى فجأة.. وكأنه ساحر أو شيخ طريقة أو كاهن فرعونى من زمن الأجداد العظام ليعلن إلى خبرا مذهلا: لقد وافق سيد مكاوى الذى كلمته من تليفون محل كوارع العهد الجديد على تلحين أوبريت الليلة الكبيرة.. أخذنا بعضنا بالأحضان.. وسجل يا تاريخ.. واكتب يا زمان.. وليلتنا أنس وجلجلة.. واكتب ولعلع ياوله! ---------------------------------------------------- عمنا صلاح جاهين سارح فى عالم تانى.. هو يدندن أمامى الآن : حمص.. حمص حمص.. عجمية.. أراجوز.. كانت هذه فيما يبدو بداية كلماته وأشعاره ليلتها فى أوبريت الليلة الكبيرة الذى لم يكن قد خرج إلى الوجود بعد..