نحن نأمل جميعا أن نصبح مجتمعاً حديثاً تديره دولة تحقق العدل وتكفل الحرية. وحينما يفاجئنا الواقع بما يبين أن أملنا هذا تعترضه عثرات نجد وجه طه حسين يفرض نفسه علينا وكأنه هو المنهل الذى علينا أن نرجع إليه للنهل منه. كيف أصبح طه حسين فى مخيلتنا هو الدليل الذى أشار علينا بالطريق الذى يجب أن نسلكه ومن أين اكتسب هذه الرمزية فى ثقافتنا العربية المعاصرة؟ . طه حسين هو بحق الأديب اللامع الذى ترك أعمالاً رائعة تعيش فى وجداننا. وهو أيضاً الناقد الأدبى الذى علمنا كيف نقف على مضمون رواية أو نحلل قصيدة. وقد نضيف أنه كان مؤرخاً رائداً فى استخدام المناهج الحديثة فى دراسة تراثنا السياسى والأدبى. وبالرغم من أن طه حسين هو بالفعل كل هؤلاء ولكن ليس هذا هو سبب الربط بينه وبين مسيرتنا إلى الحداثة. ولكى نفهم الصلة بين طه حسين والحداثة علينا أن نعود إلى ما طرحه من قبل رواد النهضة العربية. فى سبعينيات القرن التاسع عشر كان أديب اسحاق يتساءل: لماذا تتمكن ثورات الغرب من تحقيق إنجازات لشعوبها فى مجالات العدل والحرية فى حين أن ثورات الشرق لا تعدو كونها مجرد فتن تستبدل مستبداً جديداً بمستبد قديم؟ السبب هو أن الناس قد تثور ضد الملك أو السلطان ولكن آليات إنتاج الاستبداد فى المجتمع تظل كما هى لا تٌمس، فيصبح استمرار الاستبداد حتمية تاريخية أو قدراً لا مفر منه. وحينما تم السماح بإنشاء الصحف فى نهاية القرن التاسع عشر وزادت مساحات حرية التعبير وتم ضبط النظام القضائى كتب قاسم أمين أن المواطنين قد حصلوا على حريات فى التعبير لم يتمتعوا بها من قبل لكنهم استغلوها فى السخرية من الحكومة أو التشهير بهذا الوزير أو ذاك، وكل هذا لن يجدى نفعاً. النقد الوحيد الذى يدفع بالمجتمع إلى الأمام هو نقد عادات الناس وإخلاقهم وعقائدهم. فالنقد السياسى الصريح قد يكون زاعق الصوت ولكن يشوبه الاستسهال وعدم الجرأة على نقد ما هو راسخ فى الأذهان. وحينما انطلقت مسيرة التعليم الحديث فى مصر ومال الأعيان وأصحاب السلطة إلى المطالبة بقصر التعليم على أقلية محدودة فى المجتمع تتمتع بالثراء، رد أحمد لطفى السيد قائلاً: ليس الهدف من التعليم هو تخريج موظفين لسد احتياجات دواوين الحكومة، ولكن الهدف هو خلق شعب مستنير واع بمصالحه. التعليم إذن هو عماد الديمقراطية وبدون انتشاره بين كل أفراد الشعب لا سبيل أمامنا للوصول إلى الحداثة. هذه الصور الثلاث من النقد الجذرى الذى يدفع المجتمع إلى الأمام تجسدت جميعها فى طه حسين. لقد انحاز طه حسين منذ بداية إنتاجه الفكرى إلى العقلانية وإلى استخدام المنهج العلمى فى النظر إلى التراث حتى ننفض عنه غبار الأساطير والخرافات التى يطالبنا البعض بالتسليم بها دون مجادلة. كما انحاز، مثله مثل كثير من رواد التحديث، إلى الدولة المدنية وكان من الأصوات التى لا تكف، أثناء صياغة الدستور فى أعقاب الثورة المصرية، عن المطالبة بضمان حريات الأفراد. أما عن الطريق السليم إلى الحداثة فقد رسم معالمه فى كتاب مستقبل الثقافة فى مصر حينما طرح فكرة انتماء مصر إلى حضارة البحر المتوسط وذلك لينتزعها من الاستكانة لتراث الاستبداد الشرقى، أو ليقول بمعنى آخر أن قيم العقلانية والمواطنة والديمقراطية ليست قيماً دخيلة علينا بل هى جزء لا يتجزأ من تراثنا المصرى واليونانى. باختصار أراد طه حسين أن يحيد بنا عن الانخراط فى طريق واهم روج له أنصار الاستبداد وهو أن علينا أن نتجنب التقليد وأن نبتكر طريقنا، العربى أو الاسلامي، إلى الحداثة الذى يحافظ على خصوصياتنا الثقافية، وبعبارة أخرى إنه يمكننا الوصول إلى الحداثة مع الاستمرار فى قهر المرأة والتمييز بين أفراد الشعب. وقد عبر طه حسين عن استغرابه من رفض هؤلاء للقيم السائدة فى أوروبا الحديثة وهم جيرانها وعلى ضفاف نفس البحر، فى حين أن اليابان البعيدة فى أقصى الشرق قد تبنت بحماس هذه القيم وانتفعت بها. ولم يكتف طه حسين بأن روج فى أذهان بسطاء المصريين شعاره الجميل التعليم كالماء والهواء، بل عمل على تحقيقه حينما كان فى موقع إتخاذ القرار ليربط التعليم بكرامة المواطن قبل أن يكون تلبية لاحتياجات السوق. هذه التوجهات التى تحتوى فى داخلها رؤية سياسية وإختياراً حضارياً وانحيازاً لجماهير الشعب هى التى جعلت وجه طه حسين يفرض نفسه على أذهاننا كلما رأينا مسيرتنا إلى العدل والحرية تتعثر ويكتنفها الضباب. واليوم وبعد مرور خمسة وأربعين عاماً على رحيله مازال طه حسين حياً وملهماً. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث