إذا كان لمؤلف أن يكتب مسرحية عن «البريكست» ليعرضها على مسارح بريطانيا العريقة، فأى الأشكال المسرحية يختار: تراجيدى أم كوميدي؟ . فى حالة «مسرحية البريكست» التى تعرض حالياً فى لندن، هى مزيج بين الأثنين. فالمسرحية التى تعالج أكبر حدث سياسى فى بريطانيا وأوروبا خلال العشرين عاماً الأخيرة، تقدم الرؤيتين المتضادتين لقرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي: البريكست كعمل انتحارى، والبريكست بوصفه انقاذا لبريطانيا. تبدأ المسرحية بجر المشاهد فى بحر من الرمال المتحركة فى غضون دقائق من افتتاحها. فهناك رئيس وزراء جديد من حزب المحافظين الحاكم، يحاول كالساحر «هوديني» التوفيق بين انصار البريكست وأنصار البقاء فى الاتحاد الأوروبى داخل حكومته، وذلك عبر استراتيجية «التعطيل والتأجيل والتأخير». (وهى الاستراتيجية المفضلة لدى رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي). وفى المسرحية كل ما يأمله رئيس الوزراء البريطانى المحاصر بين مؤيدى ورافضى البريكست هو أن تأتى معجزة من السماء تنقذه وتنقذ حكومته والمفاوضات المتعثرة. هناك الكثير من التردد اللانهائى فى النص يعكس التردد اللانهائى فى الواقع السياسى البريطانى. فرئيس الوزراء فى حالة من التردد حيال أى طريق يسلك وأى نهج يختار. ونص المسرحية يساعد فى عكس حالة التردد هذه. فالنص فضفاض، وهو مكتوب بحيث يُضاف إليه ويحذف منه مقاطع بحسب التطورات السياسية اليومية. لكن، وباستثناء تراجيديات شكسبير الكبيرة، فإن «التردد» كمادة درامية من الصعب أن يشد المتفرج أو يجذبه لنص. فالتردد يقتل الحبكة الدرامية ويعطل مسيرة الأحداث وغير جذاب درامياً. وهذه هى معضلة المسرحية، فهى تحاكى الواقع بدقة. وواقع مفاوضات البريكست أنها «محلك سر»، وهكذا المسرحية أيضاً. فلا أحداث ولا قرارات مصيرية، فقط «محلك سر» وسط جدال طويل لا ينتهى بين الفرقاء السياسيين. بطء السلحفاة فى المسرحية يشبه الخطوات البطيئة فى مسيرة المفاوضات، انعكس درامياً على المشاهدة. فخلال عروض الليل المتأخرة، كان بعض المشاهدين يغرقون فى النوم فى مقاعدهم. انها شهادة بائسة على حالة البريكست كسياسية وكعمل درامى. وجزء من هذا يعود للنص. فالنص مباشر وسياسى إلى حد كبير وليس به طبقة أخرى أو نص فرعى يعالج ربما الجوانب النفسية والثقافية للبريكست كقرار سياسى -ثقافى -نفسى. كما أن الأصوات الرئيسية فيه، هى أصوات السياسيين، وليس هناك تركيز على البريطانيين العاديين الذين صوتوا للبريكست والذين صوتوا ضده. وبالتالى لم يخرج النص بأفكار جديدة حول البريكست. هناك نكات هنا وهناك فى النص، لكنها لا تثير الضحك لأن الموضوع برمته مثير للقلق والمخاوف. كما أن الشخصيات الرئيسية فى المسرحية، التى تشبه الشخصيات الحقيقية فى تلك الدراما السياسية مثل وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، والنائب المحافظ فى البرلمان جاكوب ريس موج أكبر داعمى البريكست الخشن، ووليام فوكس وزير التجارة الدولية، هذه الشخصيات فى المسرحية غير محبوبة وتبحث فقط عن مصالحها السياسية الضيقة، وغير ملمة بالتفاصيل المعقدة. هناك طبعاً دواع عدة لانتاج مسرحية عن البريكست، بينما المفاوضات ما زالت مستمرة ومستقبلها يحفه الغموض. فالإقبال على المسرحية كبير. ومؤلفا المسرحية، روبرت خان وتوم سالينسكى، عززا رصيدهما فى البنك بلا شك بسبب المسرحية، لكن هناك أسبابا أخرى فنية. فلقد تعب البريطانيون من مناقشة البريكست وأسبابه وآثاره قصيرة وبعيدة المدى. وبعد عامين من التحليلات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، لجأ البريطانيون لنوع آخر من مجالات التعبير وهو المسرح. المؤلفان لديهما عين نافذة على الأخبار. وفى المسرحية معالجة لما خلف الكواليس بعد تصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبى، والصراعات داخل الحكومة بعد استقالة رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، وحيل بوريس جونسون وتغطية الإعلام. إنها دراما سياسية حقيقة تفوق أى خيال روائى. والأزمات الكبرى عادة ما تكون نصوصاً جاهزة للسينما والمسرح. لكن الكتابة بينما الأزمة ما زالت مستمرة لا يضمن كتابة دراما لائقة بالحدث. وهناك انتقادات فنية أن المسرحية ركزت على سيناريو «حافة الهاوية» أى أحداث ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فى مارس 2019، وخسرت فرصة ذهبية للتركيز على تفاصيل يومية من بينها التآمر السرى فى الحكومة والبرلمان، والهستيريا السياسية، ودور الاعلام. فكل هذه التوابل اهدرت. لكن المفارقة أنه حتى بحلول 2020 ستكون بريطانيا فى حالة من عدم اليقين، ستكون فى مرحلة رمادية من الغموض غير البناء. فلا هى فى الاتحاد الأوروبى ولا هى خارج الاتحاد الأوروبى،وتحت زعامة رئيس وزراء من حزب المحافظين أفضل ما يطمح إليه هو الحفاظ على الحزب موحداً من الانقسام. المشكلة هى أنه بدلاً من أن تعبر المسرحية عن ذلك «اليأس الكوميدي» وتلك البلاد التى هى على حافة الهاوية، فإن السيناريو يعمق حالة مزاجية راكدة من البداية وحتى النهاية. لكن على العكس من هذه المحاولة المسرحية الدرامية، هناك مسرحية أخرى فى لندن حول البريكست لكنها «مسرحية غنائية» بعنوان «نجوم البريكست» أنتجها جونى وى، وتعرض فى «حدائق جورج سكوير» فى لندن، وهى تتبع الفترة التى سبقت الاستفتاء عام 2016 عبر سلسلة من الأغانى التى تسخر من الجميع، هؤلاء «المجانين» مؤيدو البريكست لأسباب أيديولوجية، و«الليبراليون المتقوقعون» حول أنفسهم فى فقاعاتهم اللندنية لا يعرفون شيئا عن متاعب المدن الصغيرة فى بريطانيا. وإذا كانت المسرحية الدرامية لا تُعطى رأياً واضحاً حول البريكست، فإن المسرحية الغنائية على الأقل واضحة فى فكرتها الجوهرية وهى ان البريكست قسم بريطانيا بشكل عميق بين «طبقات عمالية» تريد البريكست بأى ثمن، و«الطبقة الوسطى» التى تريد وقف البريكست بأى ثمن. كما أنها واضحة فى موقفها السياسى، فمنتجو ومؤلف المسرحية لا يريدون البريكست ويعتبرونه كارثة. ففى المشاهد الأولى من المسرحية عندما تظهر نتيجة الاستفتاء وهى أن 52% من البريطانيين صوتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبى، تبدأ أغان ليست أغانى بالمعنى المعروف، بل نحيب متواصل موجع. وتنتهى المسرحية بمشهد طويل يتم خلاله التعبير عن الحنق البالغ على رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون بسبب موافقته على اجراء استفتاء مبسط حول قضية شديدة التعقيد هى علاقة بريطانيا بالاتحاد الاوروبى. وتنتهى المسرحية بأغنية تدعو معارضى البريكست التمسك بأحلامهم. فالبريكست يمكن أيقافه. ليست هذه أول محاولات لمعالجة البريكست مسرحياً. فقد كتبت المؤلفة البريطانية بريدجيت كريستى مسرحية خلال فترة وجيزة جداً فى الأسابيع الستة التى فصلت بين تصويت البريطانيين فى يونيو 2016، وبدء مهرجان ادنبرة للعام نفسه. وكانت المسرحية «لأنك طلبت ذلك»، بمثابة صرخة صادمة، وسخرية من الذات، مليئة بالغضب على بلد يضر نفسه بشكل فادح. لكن آنذاك لم تكن التفاصيل واضحة. الآن وبعد نحو عامين من بدء المفاوضات، فإن النقاش والجدل حول البريكست بات سياسياً وتقنياً. وكل السيناريوهات، حتى الأسوأ منها ما زال مفتوحاً. إنها رمال متحركة - للفنانين وكذلك للسياسيين الذين يحاولون معالجتها.