لم يعد هاجس فقدان ما تبقي من الوطن الفلسطيني مسألة افتراضية أو تخيلا مريضا. ولم يعد الرحيل إلي اللامكان مسألة واردة وحسب في أساطير الأقدمين أو روايات السينما وفنون الخيال. فزمننا الراهن هو زمن الأعاجيب, زمن تتحول فيه أقبح الأشياء إلي حقائق مرة, وتتكاثر فيه الكلمات الناعمة لهذا المسئول المحلي وذاك الدولي عن السلام والأمن وحقوق الانسان, بينما يئن الطفل الرضيع من طول انتظار لوطن يبدو أنه لن يأتي أبدا. والأنكي من كل هذا أن زمن التشرد والتشريد والترحيل قسرا أو طوعا من مكان إلي آخر, ورغم ما فيه من قسوة وألم وظلم, بات ترفا, فالرحيل الآن هو الي اللامكان واللازمان واللا أمل, أو بكلمة واحدة إلي اللا حياة. عودتنا إسرائيل واعتدنا معها أن تبرز بين الحين والآخر قدرا من عنصريتها الفجة, وقدرا آخر من وحشيتها وهمجيتها, وقدرا ثالثا من غطرستها. والآن تمزج كل ذلك في آن واحد لتثبت كم هي كيان مجرد من أبسط قيم الإنسانية. أما العرب وبينهم الفلسطينيون, ووراءهم ما يسمي زورا وبهتانا بالمجتمع الدولي, فقد اثبتوا بدورهم أنهم جميعا مغيبون وفاقدو الاحساس. ولا تكفي هنا تلك الادانات أو المطالب بالإيضاحات الروتينية العقيمة لقرار عسكري احتلالي صادم وبغيض, فتلك بدورها دليل عجز وفقدان همة. فما يجري علي الأرض وفقا لخطط إسرائيل العنصرية يتم دون اعتراض حقيقي يذكر, فقط كلمات بلا معني ولا تأثير, وكأن حقوق الفلسطيني في أرضه وفي وطنه وفي بيته الأصيل مكتوب عليها النسيان والهجران, أو هي في الأصل ليست موجودة. الذي تريده حكومة نيتانياهو اليمينية المتطرفة ليس غريبا ولا عجيبا ولا غامضا, إنه واضح وضوح الشمس في منتصف النهار, إذ تريد تفريغ الضفة الغربيةالمحتلة من أهلها, وتريد أن تطفئ شمعة السلطة الوطنية الفلسطينية, وتريد تكريس الانفصال الأبدي بين غزة والضفة وتنهي أية آمال في وحدة الأرض الفلسطينية, وتريد أن ترحل الفلسطينيين جميعا دون استثناء إلي خارج كل شبر من أرض فلسطينالمحتلة, وتريد أن تغير التركيبة الديموجرافية في الضفة الغربية, وتريد أن تفسح مجالا جغرافيا أرحب لجلب مزيد من المستوطنين اليهود ليحلوا محل أصحاب الأرض الأصلاء. وفي الخلاصة تريد أن تنهي حلم الدولة الفلسطينية علي مجرد جزء من أرض فلسطين, وتعيد إحياء الوطن البديل في الأردن. وكأن الترحيل هنا ليس سوي مقدمة لتغيير جذري في الخريطة الجيوسياسية في المشرق العربي كله, ولا عزاء للعرب أو للفلسطينيين او لسلطتهم الوطنية التي يبدو انها اقتربت من لحظة النهاية. هذه بدورها ليست افتراضات أو أوهاما أو خلاصة تفكير مؤامراتي كما قد يحلو للبعض أن يصفه, بل إنها حقائق دامغة, تدعمها تلك الشهادة من قلب الكيان العبري نفسه. انظر إلي ما قالته أسرة تحرير هاآرتس الاسرائيلية قبل يومين من بدء تنفيذ القرار العسكري رقم1650, إذ قالت انه بسبب لغة القرار الغامضة سيكون ممكنا استغلال الأمر لطرد عشرات آلاف الفلسطينيين عن الضفة, وكل ذلك حسب تعسف القادة العسكريين وتبعا للاوامر العسكرية التي لا تتضح ملابسات اتخاذها. المرشحون الأوائل للطرد سيكونون من عنوانهم في هوياتهم هو غزة, بما في ذلك أطفالهم الذي ولدوا في الضفة ومن يسكنون في الضفة وفقدوا لأسباب مختلفة مكانة الاقامة لديهم... إسرائيل, التي تمنعهم, وعن حق من العودة الي الأماكن التي عاشوا فيها قبل1948, ولا تعرض عليهم تعويضا نزيها علي املاكهم( في ظل سماحها لليهود باسترداد أملاكهم من تلك الفترة, مثلما يحصل في الشيخ جراح), لا يمكنها أن تطردهم أيضا من الضفة الغربية بحجج بيروقراطية مشكوك فيها... تطبيق الامر العسكري الجديد من شأنه ليس فقط أن يشعل نارا جديدة في المناطق( المحتلة) بل من شأنه أن يوفر للعالم دليلا خالدا علي أن هدف اسرائيل هو الطرد الجماعي للفلسطينيين من الضفة الغربية. الامر واضح إذا لكل ذي بصر, فنحن أمام مأساة فلسطينية جديدة, الفارق بينها وبين المآسي الفلسطينية التي حدثت قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاما, أنها تحدث علي الملأ, وعلي المكشوف, وعلي شاشات التليفزيون, يراها الجميع ولا سبيل لأي منهم أن ينكرها أو يدعي بعدم العلم, أو أنه سيتقصي الحقائق, أو سيقوم بتحليل بنود القرار لعل فيه ما يحق للاحتلال أن يفعله. إنها مأساة تحدث في زمن أكثر ما فيه حديث مسهب إلي حد الملل والغثيان عن حقوق الانسان وكرامة المجتمعات. ولكنه حديث ينال من كل طرف في العالم إلا كيان واحد فقط هو إسرائيل, التي تحصل علي حماية إضافية من واشنطن وباريس وبرلين ولندن تسمح لها أن تفعل كل شئ يناقض الاعراف والقوانين والمعاهدات, وليذهب القانون الدولي إلي الجحيم. مأساة الفلسطينيينالجديدة ليست مجرد مأساة لبعض البشر, أو تجاوز لحقوقهم الطبيعية في سكن ومأوي, وإنما هي مأساة مركبة, تطيح برموز وأوهام كثيرة, أولها وهم السلطة الفلسطينية التي أثبت القرار العسكري الاسرائيلي أنها سلطة افتراضية يقترب عمرها من الانتهاء العضوي, وأن اساسها القانوني المتمثل في اتفاقيات أوسلو لم يعد سوي ذكري تاريخية, أو ثلة من الورق البيضاء بلا أي حروف أو كلمات. فالقرار العسكري المشئوم يقول صراحة أن الضفة الغربية وسكانها هم تحت مسئولية اللواء غادي شامني قائد قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في يهودا والسامرة أي الضفة المحتلة, وأن من سيتولي تنفيذه هم جنود الاحتلال وقوات الشرطة الاسرائيلية ضد كل من يوصف بأنه متسلل, أي أتي من مكان آخر غير الضفة الغربيةالمحتلة ولا يملك تصاريح قانونية تصدرها سلطات الاحتلال نفسه, وهي التي لم تصدر تصاريح منذ سنوات طويلة لأي فلسطيني. هذا المتسلل وفقا للقرار المشئوم سيعاقب بالإبعاد والكفالة والسجن من ثلاث إلي سبع سنوات. وبالتالي سيحدث تفكك أسري ومجتمعي جديد وعلي نطاق واسع جدا. وثانيها أن توقع الضغط الأمريكي ليس سوي وهم آخر كبير, فإسرائيل تتصرف باعتبار أن الساحة خالية تماما من اللاعبين كما هي خالية حتي من المتفرجين. فهي حرة التصرف دون أدني اعتبار لرد فعل من أي طرف. وحتي وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تلوم العرب لمجرد أن بعض اصوات منهم ونتيجة الغضب تطالب بسحب المبادرة العربية للسلام ردا علي الموت السريري لما كان يعرف بعملية السلام, وتغمض العين تماما علي ترحيل جديد للفلسطينيين, وكأنها لم تسمع بعد بما يفعله نيتانياهو وحكومته المتطرفة. وثالثا أن امكانية أن يكون للفلسطينيين موطيء قدم في القدس كعاصمة لدولتهم وفقا لاتفاق منتظر, هو وهم آخر, أو تخفيف ليس سوي حلم يتبخر بسرعة في الهواء. فكيف يمكن أن نحافظ علي القدس وهناك آلية لتفريغها من سكانها تحت ذرائع شتي, من بينها أنهم متسللون, أو قادمون من كوكب آخر. أنظر هنا إلي ما ورد من حقائق مرة في بيان لمركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية حول القرر العسكري الاحتلالي المشئوم, فنحو20 ألف مواطن من أبناء الضفة الغربية متزوجون من مقدسيات ويقيم جزء كبير منهم في مناطق داخل الحدود البلدية المصطنعة للقدس بموجب تصاريح إقامة مؤقتة, كان جري ترحيل بعضهم ليلا إلي مناطق سكناهم إما في الضفة الغربية أو في الأردن. ناهيك عن أن تنفيذ القرار علي أيدي جنود الاحتلال سيتم بطريقة تعسفية لا شك فيها عند الحواجز العسكرية ونقاط العبور, واعتبار هؤلاء المواطنين متسللين ما سيعرضهم لعقوبة السجن والإبعاد, حسب ما جاء في القرار. وتتضح المأساة حين يسأل المرء عن مصير آلاف الاسر المقدسية, والتي أفقدت حق إقامتها في القدس وتقيم حاليا في بلدات وضواحي محافظة القدس مثل أبو ديس والعيزرية, والرام وضاحية البريد وبير نبالا وأم الشرايط, فهل سيطلب من هؤلاء إبراز وثائق تثبت إقامتهم, وإن لم يتمكنوا من ذلك, فإلي أين سيتم ترحيلهم وإبعادهم هكذا يتساءل البيان, ومن جانبنا نجيب قطعا إلي اللامكان, وإلي مأساة أخري تضاف إلي سابقاتها.