مع نهاية العام يتجه نظر المثقف تجاه مكتبته بشكل تلقائى، يعيد ترتيب الكتب، ويذكر نفسه بقائمة من الكتب التى يود قراءتها ولم يسعفه الوقت. اختار إلياس فركوح الروائى والقاص والمترجم الأردنى الأبرز أن ينظر إلى عالم الكتب والمكتبات بنظرة شمولية تحليلية فى كتابه الأخير «خذ الكتاب لتراك»، الصادر أخيرا عن دار نشر أزمنة. اختار المؤلف تبويبا مختلفا للكتاب، حيث قسمه إلى ثلاثة دفاتر: رفوف، وجوه، قراءات. .................................. فى الدفتر الأول يجرد فركوح معنى المكتبة والكتاب من زوايا عديدة مدهشة: «أحد وجوه التشابه بين المكتبة والكتاب: الحذف والإضافة». يوضح أنه ليس ممن تتحقق ذواتهم بامتلاء رفوف مكتباتهم إلى حد الاكتظاظ. ويعلل: «أولسنا جميعا عرضة للتغيير المستمر، مما يعنى أن أذواقنا فى حالة تبدل دائم، وهذا ينبغى أن ينعكس على الكتب التى ننتقى...إن حالات التبدل هذه تستتبع حذفا وإلغاء واستغناء عن كتب باتت خارج سياقات مداركنا...هذا ما أطلق عليه التعشيب! تماما مثلما يقوم البستانى بانتزاع غير المفيد من الأعشاب النابتة». ينتقل فركوح برشاقة بين تعريف وآخر للمكتبة: فى موضع آخر يكتب: لقد رأى بورخيس الجنة كمكتبة كونية هائلة، بلغات شعوب الأرض، تحكى قصة الإنسان عبر العصور. وأنا أرى الجنة عالما من الشوكولا أعيش فيه حلاوة الفضول المعرفى فى كل كتاب أقرأ صفحاته بمتعة. فى موضع آخر، يعرف الكتاب بأنه «المرآة التى لا تكذب» فى كشف حقيقة المجتمعات المنتجة له، وتلك التى لا تنتجه، أو التى تحول دون إنتاجه، والرابعة التى تأمر بإنتاجه وفقا لما يناسبها، والخامسة التى تحظر انتشاره وقراءته بذريعة المحافظة على جميع حالات التكلس السالفة بحجة سلامة القيم الموروثة! فى فصل آخر بعنوان الأرشيف صندوق «باندورا»، يرى المؤلف أن تقليب أوراق الأرشيف يماثل إعادة سرد حكايات أعمارنا والضحك منا أو علينا. فالأرشيف عند النبش فيه خطير فهو يفضح قصور رؤيتنا للعالم عندما ُيظهر أن كثيرا مما كنا نضعه على هامش اهتماماتنا بات اليوم محور حياتنا غير المكتمل! يذهب المؤلف-وهو صاحب دار نشر أزمنة المعروفة- إلى أبعد من ذلك حينما يمتلك شجاعة تبنى موقف مؤيد لقرصنة الكتب: فى فصل بعنوان «شريك فى القرصنة» يقترح: القرصنة مشروعة ونظيفة وبريئة كونها تهدف إلى إفساح المجال لحيازة معرفة ترتقى بالإنسان، أولاً وأخيراً. ويبرر: ندرك جميعا أن طموح كتابنا العرب يتمثل فى أن ُتقرأ كتبهم على أوسع نطاق-فما بالك لما تتحول إلى «مواد تسرق»! كما أن ناشرا موضوعيا يعى حقيقة موقع الكتاب فى سلم أولويات المواطن العربى رهينة كل ضروب التجهيل والإفقار والعقبات الجمة أمام سلاسة توزيعه، لن يرى فى عشرات الكتب المقرصنة سببا لخسارة تذكر فى مشروعه. ينفذ المؤلف إلى نقطة تجريد أخرى وهى المعمار: فيلاحظ بشكل مفصل أن النسبة الأكبر من مكتبات العالم ذات العراقة تتصف بمعمار يكاد يقترب من المعمار الباروكى للكنائس. وكأن ما تحويه من كتب تكاد تكون مقدسة يعبر عن قداسة التاريخ. يشير المؤلف أيضا إلى المعمار الحديث فى بعض المكتبات التى أنشئت فى قلب القرن العشرين المتسمة بغلبة الألوان الفرحة أو البياض المتخلى عن إيحاءات الغموض المقدس، وتتميز بالضوء الآتى من الخارج سامحا بامتزاج عناصر الطبيعة الحية مع الداخل الذى صار شعبيا رحبا. فى الدفتر الثانى المعنون «وجوه» تطالعنا بورتريهات عديدة رائقة لكتاب عرب وعالميين يحتفى المؤلف بأرواحهم، حيث لعبوا دورا فى تشكيل لغته ومكتبته وينقلنا إلى عوالم جديدة من منظوره الخاص: خوان جويتسولو: الكاتب والمستشرق الإسبانى الذى عاش شبابه فى المغرب، ثم اضطر للهجرة إلى فرنسا عام 1956 وهو فى سن الخامسة والعشرين، عاش نهاية حياته بين باريس والمغرب وعرف بمناصرته للقضية الفلسطينية ومعارضته للاستعمار الفرنسى فى الجزائر. يتناول المؤلف جويتسولو، حياته وأعماله من منظور تعدد الهوية وتعدد الثقافات. إدمون عمران المليح 1917-2010، المثقف والروائى المغربى الذى لم يحظى بشهرة خارج حدود المغرب التى اضطر لمغادرتها إلى فرنسا عام 1965 إثر القمع الدموى لانتفاضة الجماهير فى أحداث مارس فى الدار البيضاء. عرف المليح بمواقفه الحادة ضد الاستعمار الفرنسى وضد دولة إسرائيل بالرغم من كونه يهوديا. فى فصل آخر يصافح وجه نجيب محفوظ ويلقى علينا بالسؤال التالي: ماذا سيتبقى من نجيب محفوظ حين نصل إلى النصف الأول من ثلاثينات هذا القرن، أى بعد مرور مائة عام على نشره لقصة «ثمن الضعف»؟. ويقدم المؤلف رؤية لوجه محفوظ من زاوية تأثير هزيمة 1967 على بناء السرد القصصى المحفوظى على حد قوله، مشيرا بأسلوب تحليلى واع إلى «تحت المظلة»، الكتاب الذى يحوى ست قصص قصيرة وخمس مسرحيات كتبت ما بين أكتوبر وديسمبر 1967 وتتسم بحسها التجريبى وفنتازيتها المتطرفة. بالإضافة إلى إضاءة فركوح لبصيرة القارئ العربى كاشفا عن أسماء ربما ليست متداولة كثيرا، يلقى المزيد من الضوء فى الدفتر الثالث والأخير المعنون قراءات: إعادة قراءة لكتابات لافتة وجديدة، منها: كأنها مزحة لفيروز التميمى التى تثير فيه تساؤلا: هل العالم مجال ثابت حقا؟ وافتراضا بأن الحياة كلها تبدو وكأنها مزحة. بيروت صغيرة بحجم راحة اليد لأمجد ناصر، الذى رصد بشجاعة حالات الخوف التى اجتاحت المثقفين العرب إزاء حصار بيروت 1982، تحليل جوهر «البطولة»، كيف يمكن للكاتب أن يكتب عن الرعب الذى يسبق الموت، تحديدا 27 تموز وقت القصف الإسرائيلى المكثف على المدينة، ونساء المدينة وقت القصف وظهورهن فى الشرفات فى ثياب النوم...هن اللواتى يعطين للحياة معنى. وجودهن إشارة على أن الحياة متواصلة رغم كل شيء». عناوين كثيرة تثير قراءتها ولع القارئ منها: الطائر المصبوغ للكاتب ييجى كوشينسكى، ستيمر بوينت لأحمد زين، سقوط السنديان لأندرية مالرو وغيرها. ما افتقدته فحسب فى هذا الكتاب الثرى هو معايشة حقيقية للمؤلف والروائى إلياس فركوح لمكتبة حقيقية.. كنت أمنى نفسى وأنا أصافح الكتاب بمشهد روائي/ تسجيلى للكاتب- المعروف بشخوصه فائقة الحيوية وحواراته الموجزة المحملة بالرموز-أعنى تسجيل زيارة لمكتبة عالمية أو حتى مكتبة صغيرة على الهامش فى ضاحية مدينة عربية. كان يمكن لهذا المشهد أن يضفى قدرا أكبر من الحيوية لمحتوى الكتاب خاصة فى دفتره الأول. إلا أن فضائل هذا الكتاب، الذى بلغت صفحاته متوسطة القطع 230 صفحة، وافرة: فهو يبدو كبوابة عملاقة ذات منافذ واسعة كل منها يفضى إلى شرفة معرفية جديدة. يبدو الكتاب كواجب ثقيل يمتد عبر عام جديد بأكمله يلزم القارئ لاكتشاف تلك الأسماء والعناوين الجديدة وإفساح أماكن جديدة لها فى قلب مكتبته.