إن التاريخ الإنساني علي مستوي المكان والزمان يثبت أن الإنسان لم يكن يوما فردا أو جماعة يسير في الأرض بلا دين أو عقيدة أو أيديولوجيا تحركه وتؤثر في سلوكياته وأفعاله, وذلك لأن الاعتقاد عنصر ضروري في طبيعة الإنسان; فبه وحده يجد العقل الإنساني ما يشبع تأملاته, وهو فوق ذلك عنصر ضروري لتكميل قوة الوجدان الإنسانية; فالعواطف النبيلة من الحب والشوق والشكر والتواضع والحياء والأمل وغيرها إذا لم تجد ضالتها في الأشياء ولا في الناس وجدت في الاعتقاد مجالا ومنهلا لا ينفد. والاعتقاد كذلك عنصر ضروري لتكميل قوة الإرادة; فهو يمدها بأعظم البواعث والدوافع ويحميها بأكبر وسائل المقاومة لعوامل اليأس والقنوط. وهكذا نري أن الاعتقاد يعبر عن حاجات النفس الإنسانية في مختلف ملكاتها ومظاهرها. وكما أن للاعتقاد وظائف نفسية فردية فإن له وظائف أخري اجتماعية لا تقل أهمية عن الوظائف الأولي; فإنه من المسلم به أن الحياة الاجتماعية لا قيام لها إلا بالتعاون بين أعضائها, وأن هذا التعاون إنما يتم بقانون ينظم علاقاته ويحدد حقوقه وواجباته, وأن هذا القانون لا غني له عن سلطان يكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته,وليس علي وجه الأرض قوة تكافئ قوة الاعتقاد الديني أو تدانيه في كفالة احترام القانون وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه. والسر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولي قيادتها شيء لا يقع عليه سمعه ولا بصره ولا يوضع في يده ولا عنقه ولا يجري في دمه ولا يسري في عضلاته وأعصابه وإنما هو معني إنساني روحي اسمه العقيدة; فالإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق وتؤدي الواجبات علي وجهها الكامل; فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبة المالية لا يلبث أن يهمله متي اطمأن إلي أنه سيفلت من طائلة القانون. ومن الخطأ أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء وعوضا عن العقيدة السليمة; وذلك لأن العلم سلاح ذو حدين فهو كما يصلح للبناء والتعمير يصلح للهدم والتدمير, ولابد في حسن استخدامه من رقيب يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض لا إلي نشر الشر والفساد, وذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان. وهذا الإيمان علي ضربين: إيمان بقيمة الفضيلة وكرامة الإنسانية وما إلي ذلك من المعاني المجردة التي تستحي النفوس العالية من مخالفتها, وإيمان بذات علوية رقيبة علي السرائر يستمد القانون سلطانه الأدبي من أمرها ونهيها, وتلتهب المشاعر بالحياء منها أو بمحبتها أو بخشيتها, ولا ريب أن هذا النوع هو أقوي النوعين سلطانا علي النفس الإنسانية وهو أشدهما مقاومة للهوي وأسرعهما نفاذا إلي قلوب الخاصة والعامة. من أجل ذلك كان الاعتقاد الصحيح خير ضمان لقيام التعامل بين الناس علي قواعد العدالة والإنصاف وكان لذلك ضرورة اجتماعية كما هو فطرة إنسانية. والعقيدة الإسلامية هي الإيمان الجازم بأن خالق السموات والأرض هو الله رب العالمين, وأنه إله واحد متصف بكل الكمالات, منزه عن كل النقائص, ليس كمثله شيء, وأن محمدا صلي الله عليه وسلم نبيه ورسوله إلي العالمين كافة; بلغ رسالته علي أكمل وجه وأتمه,وأن القرآن كتابه الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأن ما أخبر به من الغيب حق فالملائكة حق والنبيون حق والجنة حق والنار حق; بحيث يحرك هذا الإيمان صاحبه بأن يلتزم بأحكام شريعة الإسلام ويتبع أوامر الكتاب والسنة. والتوحيد علامة هذه العقيدة وركنها الركين, وهو يعني إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته والتصديق به ذاتا وصفات وأفعالا وأن ليس هناك ذات تشبه ذاته تعالي, وأن ذاته لا تقبل الانقسام لا فعلا ولا وهما ولا فرضا مطابقا للواقع, ولا تشبه صفاته الصفات فلا تعدد فيها من جنس واحد كأن يكون له تعالي قدرتان أو إرادتان أو علمان مثلا ولا يدخل أفعاله الاشتراك; إذ لا فعل لغيره سبحانه خلقا وإن نسب إلي غيره الفعل كسبا. وقد جمع أهل التحقيق ما قاله العلماء عن التوحيد في مسألتين: الأولي: اعتقاد أن كل ما تصور في الأوهام فالله بخلافه, والثانية: اعتقاد أن ذاته تعالي ليست مشبهة للذوات ولا معطلة عن الصفات. هذه هي العقيدة الإسلامية الصحيحة التي قامت عليها حضارة الإسلام وستبقي وتدوم إن شاء الله إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها. المزيد من مقالات د. علي جمعة