الإنسان كائن حى مثله مثل باقى الكائنات الأخرى، يعيش فى كنف الطبيعة. هذه الكائنات تعيش نفس حياتها من ملايين السنوات، أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذى تتغير ظروف حياته باستمرار. وهذا ما نطلق عليه التاريخ. وإذا تساءلنا لماذا يحدث هذا التغيير المستمر لدى النوع الانسانى وحده؟، فلا شك أن الإجابة ستكون بسبب تنامى المعرفة. ويثور السؤال: لماذا يسعى الانسان إلى المعرفة؟ يرى بعض علماء الأنثروبولوجيا أن السبب هو أن المعرفة نافعة للإنسان، ولأنه تحقق من جدواها فهو يقبل عليها. ويرى آخرون أن الإنسان خُلق ميالاً بطبيعته إلى حب الاستطلاع بصرف النظر عن جدوى المعرفة أو عدمها. حب الاستطلاع هذا هو الذى يفسر لنا الرسائل العلمية الكثيرة التى كتبها العلماء العرب لتفسير ظاهرة قوس قزح. وكان أرسطو يرى أن المعرفة غاية فى حد ذاتها، وأن إشباع هذا التعطش إلى حب الاستطلاع هو الذى يقود الإنسان إلى الحكمة، وبالتالى يشعر بالسعادة. فى هذا المناخ كان العلماء فى كل حضارة هم نخبة معدودة، وهم الذين يقدمون الإجابات عن كل الأسئلة التى تدور فى ذهن الإنسان العادى من نوع : لماذا يهطل المطر؟ ما هو سبب جاذبية المغناطيس أو خسوف الشمس؟ ومع نهاية العصور الوسطى ساد الاتجاه الثانى الذى يربط المعرفة بتحقيق المنفعة للإنسان، ولم يعد تحصيل الحكمة هدفاً عزيزاً، كما تحول هدف المعرفة من الوصول إلى الشعور بالسعادة إلى تحقيق الرفاهة المادية. وهكذا أصبحت المعرفة العلمية هى العامل الأساسى فى تقدم المجتمعات. ولكى يصل مجتمع إلى إنتاج علمى كبير ومؤثر ينبغى ألا يقتصر العلم على نخبة محدودة وإنما يجب أن تشيع الروح العلمية فى المجتمع بأسره. فأنت لا تستطيع أن تنتج علماً قادراً على تغيير الحياة اليومية للناس فى وسط مجتمع من الجهلاء. ومن هنا انبرى الفلاسفة إلى استكشاف العقبات التى تقف فى وجه المعرفة العلمية وتعرقل مسيرتها. ومن أوائل الذين تصدوا لهذه المهمة الفيلسوف الانجليزى فرنسيس بيكون والذى حدد أربعة أنواع من الأوهام ينبغى التخلص منها كشرط لإنتاج المعرفة العلمية. النوع الأول هى أوهام الجنس البشرى، وهى نابعة من الطبيعة الإنسانية مثل ميل الناس إلى افتراض أن هناك نظاما محكما فى الطبيعة وتحيزهم إلى الأدلة المؤيدة لآرائهم وتغافلهم عن الأدلة المناقضة لها. أما النوع الثانى فهى أوهام الكهف، وهى خاصة بكل فرد، فلكل منا كهف صغير يعيش فيه، صنعته تربيته وظروفه ومصالحه، فبعضنا يميل إلى رؤية التشابهات فى الأشياء، والبعض الآخر يميل إلى إبراز الاختلافات بينها. أما النوع الثالث فهى أوهام السوق وهى ناتجة عن استخدام كلمات اللغة الطبيعية بين الناس دون أن يكون هناك اتفاق مشترك على دلالتها الدقيقة، ولهذا يكتنف الغموض آراءهم. النوع الرابع هو أوهام المسرح، وهو تصور أن للعلم أبطاله الكبار وما علينا إلا أن نجلس فى مقاعد المتفرجين نكتفى بالتصفيق دون أن نبذل جهداً للوصول إلى الحقيقة بأنفسنا. هذه الأوهام إذا انقشعت من الذهن استطاع أن يكون مثمرا وفعالاً. صاغ بيكون تصوره لهذه العقبات فى القرن السابع عشر فى بداية مسيرة العلم الحديث، أما فى القرن العشرين فقد حدد الفيلسوف الفرنسى جاستون باشلار عقبات أخرى حرص على أن يطلق عليها العقبات المعرفية، لأنها تنشأ بسبب المعرفة. فهو يميز بين نوعين من العقبات: عقبات خارجية مثل تعقد الظواهر الطبيعية وعبورها السريع، وعقبات داخلية نابعة من قلب المعرفة نفسها، من بينها عقبة الخبرة الأولى والتى تعنى الاهتمام بالجوانب المبهرة فى الظاهرة على نحو ما يفعل أستاذ الكيمياء حينما يجرى تجربة تؤدى إلى فرقعة قبل أن يشرح للتلاميذ تفسيرها سلفاً، ومن العقبات أيضاً الميل السريع إلى التعميم مما يخفى خصوصيات كل ظاهرة. والعقبة البراجماتية التى تفسر الظواهر من ناحية جدواها، والعقبة المادية والتى تفسر جاذبية المغناطيس بوجود مادة لاصقة، والنزعة الإحيائية التى ترى أن فى كل شىء روحا، فتصور الصدأ على أنه مرض للحديد، والعقبة الواقعية، فنحن حين نضغط على قطعة خشب لنغمرها فى الماء نشعر بأن قطعة الخشب تقاوم فى حين أن الماء هو الذى يقاوم، وعقبات أخرى كثيرة أشار إليها باشلار مما يجعله المؤسس الحقيقى لسيكولوجية المعرفة. ويدعو باشلار إلى القيام بعملية تطهير فكرى ورفض كل سلطة فكرية وإبقاء الذهن فى حالة قلق. تأملات باشلار أدت إلى ثورة فى مجال التربية، فأصبح دورها لا يكمن فى حشو ذهن التلميذ بالمعارف بل إزالة الأحكام المسبقة التى تكونت لديه انطلاقاً من معارفه السابقة. أصبح معيار التعليم الناجح تعليم التلاميذ كيفية النقد وليس كمية التحصيل. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث