فى إطار مفهوم الدولة العصرية النهضوية التى تأخذ مصر خطوات فاعلة ضمن مسار الوصول الى هذه الغاية، وفى إطار البحث والجدل عن مقومات هذه النهضة ومؤشرات الدولة العصرية التى تأخذ العلم نهجا والقانون سيادة، والمدنية بمعناها الحضارى الطارد لصخب الرجعية والمفاهيم الماضوية التى تبث الشقاء للمجتمع والدولة معا، فإنه لزاما البحث عن هذه الذات المصرية بتاريخها المضيء فى ظل مناخ مليء بالشك والريبة تجاه ما تحاول أن تصل إليه الدولة بمؤسساتها المختلفة للوصول الى هذه الدولة العصرية بمؤسسات فاعلة، وكذلك تحقق النهضة الشاملة عبر برامج عدة، سواء مرتبطة بالاصلاح الاقتصادى الهيكلى أو محاولة للنهوض بمنظومة التعليم أو ما يطلق عليه تجديد الخطاب الدينى أو الدعوي. من المؤكد أن مفهوم الدولة عندما ترسخ كان الهدف منه هو تنظيم حركة المجتمع والحفاظ على تماسكه وأمنه من خلال مؤسسات بعينها موكل إليها اختصاصات محددة، تتكامل وتتقاطع جميعا من أجل مصلحة المجتمع وجميع أعضائه، وعندما وجد القانون وجد لتنظيم حقوق وواجبات أعضاء المجتمع والاحتكام إلى النصوص القانونية التى تحفظ لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه، ومن دون القانون وسيادته لا يمكن أن تكون هناك حماية للحقوق الفردية والجماعية، وعندما أوحى الله لرسله بدياناته المتلاحقة كان الغرض منها بث التسامح والتعاطف والتعاضد بين الناس، وكذلك روح التعاون وتنظيم حياتهم الروحية وإعلاء قيمهم الإنسانية. لقد واجهت الذات المصرية إحباطا حضاريا خطيرا من خلال اصطدامها بالآخر المستعمر منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث طرحت بحدة مشكلة التخلف الذاتى من خلال الادراك المرير لتقدم الآخر، وهنا برزت المواجهة (سياسيا – اجتماعيا) بالنسبة بالذات المصرية بأبعاد متعددة، وعلى رأسها البعد التاريخى الذى أخذ صبغة المقارنة بين الحاضر المتقدم للآخر، وماضيه المتخلف من جهة، وبين الماضى المتقدم بالنسبة للذات المصرية وحاضرها المتخلف من جهة أخري، إن ظهور العلاقة بين الثقافة والدين كعاملين مؤثرين يشكلان مضمون الحضارة، قد لعبا دورا مهما فى تطور الذات المصرية بعدما استتبت أركان الدولة الحديثة من خلال مشروع الحداثة الذى أطلقه فى تلك المرحلة محمد على باشا... وقد نال المشروع ما ناله وتعرض لكثير من النكسات بعد دخول مصر تحت نير الاستعمار الإنجليزي.. ولقد شهد القرن العشرون ظهور الثقافة الحديثة وتفاعلاتها مع الأيديولوجيا الدينية كفاعليات حضارية، وتم طرح مسألة التأصيل ضمن التعامل مع التراث من خلال ثلاثة محاور: الأول من خلال التعامل مع التراث كميدان يشهد صراعا على مستوى القراءة والتأويل، وبالتالى فإن الموقف من التراث حمل مضامين الصراع على مستوى اللحظات التى تمر بها البلاد (على سبيل المثال إبداعات طه حسين وعلى عبد الرازق وأحمد لطفى السيد والمازنى ومحمد حسين هيكل واسماعيل مظهر وأحمد أمين وغيرهم) حتى الأزهر نفسه شهد نقلة نوعية باعتلاء مشيخته تلميذ الشيخ محمد عبده الشيخ محمود شلتوت، وشهدت الفترة مؤلفات (الإسلام وأصول الحكم – مستقبل الثقافة فى مصر – الشعر الجاهلي... وغيرها). والثاني، تعامل الثقافة قد تم من خلال اعتبارها مادة معرفية يمكن توظيفها فى نقل المجتمع الى العصر الحديث، وفتح آفاق التفاعل مع الثقافات الأخرى والانفتاح على القيم الثقافية. والثالث، تمثل فى السعى نحو الحصول على قيم جمالية عبر الانتقال من المباشر الى غير المباشر من خلال مراجعة الكتابات الذاتية وطرح الإشكالية الكبرى – التى كانت ومازالت حية – إشكالية الأصالة والمعاصرة والتى طرحت كمحور تتحرك حوله قضايا ما يسمى «النهضة المصرية». كان الازهر الشريف (باعتباره ليس فقط المؤسسة الدينية الرسمية، بل كان يمثل مدرسة التجديد والتنوير فى عهود مضت حتى اطلق عليه الجامع والجامعة) يمثل المرجعية الدينية الوسطية رغم تعاقب بعض ذوى التوجهات المختلفة على قيادته، إلا أنه لم ينضب أبدا فى رفعه المفاهيم التنويرية التى تتناسب مع روح العصر وتطوره ومع ثوابت الدين وميزان الاعتدال بما يحقق الهدف فى مواجهة الفكر المتطرف الشاذ بما يعكس سماحة الدين بعيدا عن الغلو والعنف والارهاب. ورغم تباين المدارس الفقهية داخل هذه المؤسسة العريقة فإنه لعب أدوارا تاريخية فى مواجهة حركات العنف والتشدد.. وخرج من عباءته العديد من التنويريين والمجددين، ابتداء من الفقيه عبد المتعال الصعيدى وانتهاء الشيخ محمود شلتوت مرورا بعظام امثال على عبد الرازق وطه حسين ( هذه الاسماء أمثلة للدلالة، فلا يحتمل المقال ذكر كل الأسماء). يكفى أن نشير إلى مثال واحد فى القرن التاسع عشر، وهو ان نظرية التطور من النظريات التى لم تحظ مثلها من اهتمام على المستويين العلمى والشعبى –وقد يزعم البعض أنه لا توجد نظرية اخرى أحدثت ما أحدثته من تغيير جوهرى فى الفكر الانسانى على مدى تاريخه الطويل. فقد تعرض لها أبناء مؤسسة الأزهر – مثل الشيخ امين الخولى الذى تخرج فى مدرسة القضاء الشرعي، صاحب الخطاب التجديدى حيث إن مقولة التطور تعتبر المقولة المحورية فى خطاب الخولى التجديدى حتى إنه ألقى محاضرة عام 1927 فى علم الاخلاق على طلبة كلية اصول الدين تعرض فيها لهذه النظرية، وأشار إلى أن نظرية التطور هذه لها أصول فى الفلسفة الإسلامية عند اخوان الصفا وابن سينا، فقد كان الخولى كمثال (وزميله طه حسين) قد أسهما فى بث الروح الحيوية فى الخطاب الديني. ولم يكن كما يشاع يسعى الى نفى دور الدين. إن مشروع النهضة والحداثة له تكاليف باهظة أولها الإرادة الحقيقية، سواء لصانع القرار أم للقوى الاجتماعية الفاعلة لتجاوز المفاهيم المغلوطة والإرث المشوه عن علاقة الدولة بالمدنية وعلاقة العلم بالدين وعلاقة الدين بالمجتمع. إن دولة تبحث عن الحداثة ينبغى أن تقوض الفاشية بجميع أشكالها وتدعم العلم والتجديد والتحديث فى جميع مناحى الحياة. لمزيد من مقالات صبرى سعيد