تجدد الأمل مرة أخرى بقرب تشكيل الحكومة اللبنانية بعد ما يقرب من أربعة أشهر على تكليف سعد الحريرى بهذا التشكيل، ففى تصريح للحريرى الثلاثاء الماضى ذكر أن الحكومة سوف تتشكل فى غضون عشرة أيام، لكنه أردف قائلا إنه فى حال اعتذاره عن الاستمرار على رأس الحكومة فإنه لن يطلب من أحد أن يعيد تكليفه مجددا، بقول آخر فإن الحريرى حاول ترشيد تفاؤل الشارع اللبنانى بالتذكير بأن اعتذاره عن مواصلة مشاوراته الوزارية هو احتمال قائم. سيناريو التلكؤ فى خروج الحكومات اللبنانية إلى النور سيناريو متكرر ومعلوم للجميع، فلبنان لا ينقسم فقط إلى 18 طائفة لكن الطائفة الواحدة تتوزع على عدة تيارات سياسية وتوجد بين بعض هذه التيارات تناقضات جذرية، ويزيد الأمر تعقيدا أن هذه التيارات ما هى إلا امتداد لمحاور إقليمية وارتباطات دولية مختلفة. وأظن أنه عندما توصل السياسيان اللبنانيان بشارة الخورى ورياض الصلح فى عام 1943 لوضع الميثاق الوطنى الذى جرى وفقه توزيع الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الوزراء)، لم يخطر ببالهما أن السياق المحيط بلبنان صائر إلى هذا التعقيد الخطير الذى يجعل المحاصصة الطائفية عبئا على لبنان وليس حلا لتمثيل كل الطوائف. والمتابع لتطورات تشكيل الحكومة اللبنانية يقرأ العجب بهذا الخصوص، فمن قائل إن هذا التشكيل فى انتظار استتباب الوضع فى إدلب السورية أو رد الفعل الإيرانى على الحزمة الجديدة من العقوبات الأمريكية أو عثور السعودية على بديل مناسب لسعد الحريري، إلى قائل إن الظروف تحسنت بتشكيل الحكومة العراقية بحكم وحدة اللاعبين الإقليميين فى لبنان والعراق، وفى انتظار تبلور نتائج هذه التطورات لا بأس من التلهى بسؤال: مَن مِن الفرقاء السياسيين يأخذ ماذا من الحقائب الوزارية؟ هذا التأخير فى تشكيل الحكومة اللبنانية ليس جديدا إذن، وهو بالتأكيد ليس الأطول، لكن مع ذلك فإن الماراثون الحالى نحو السراى الحكومى مهم لأنه يبدو وكأنه تجهيز للاستحقاق الأكبر فى عام 2022عندما يحين موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، وثمة مؤشرات كثيرة على ذلك. المؤشر الأول يتمثل فى محاولة ميشيل عون تعزيز موقع رئيس الجمهورية المحجوز للطائفة المارونية، واعتباره فى هذا الخصوص أنه يملك الحق فى تغيير التشكيل المقدم من سعد الحريري، لا بل وتهديده بأنه فى حال تأخر التشكيل الحكومى قد يعرض الأمر على مجلس النواب. على الجانب الآخر يدافع سعد الحريرى ومن خلفه الطائفة السنية عن أن تشكيل الحكومة صلاحية حصرية لرئيس الوزراء وأنه ليس فى الدستور ما يُلزِم بهذا التشكيل فى مدة زمنية محددة. هذا الجدل الدستورى فتح الباب واسعا على اجتهادات سياسية من نوع أنه ليس معقولا أن يقوم رئيس الجمهورية بتقليص صلاحياته بأكثر مما تم تقليصها بالفعل فى اتفاق الطائف عام 1989، وأنه إذا كان الرؤساء السابقون قد فرطوا فى حقوقهم الثابتة إزاء رؤساء الحكومة فهذا التفريط غير ملزم. بطبيعة الحال يرتكز عون فى هذا الطرح على طبيعة اللحظة الزمنية الراهنة وهى لحظة تتميز برجحان كفة فريق حزب الله وأنصاره ومن بينهم التيار الوطنى الحر، ويراهن عون على أنه فى هذه اللحظة قادر على تثبيت موقع رئيس الجمهورية عمليا طالما أنه لاسبيل لتغيير معادلة الطائف فى حدود الأمد المنظور، حتى إذا خلفه صهره جبران باسيل فى المنصب وجد الوضع مريحا. المؤشر الثانى يتضح من معركة تكسير العظام بين كل من سمير جعجع وجبران باسيل اللذين يعدّان نفسيهما للترشح لرئاسة الجمهورية، وثمة اقتناع غير مُبَرَر لدى كليهما بأنه كلما زادت حصة القوات اللبنانية أو التيار الوطنى الحر من الحقائب الوزارية تحسن وضعه فى المنافسة على رئيس الجمهورية، ولقد أشار حسن نصر الله نفسه إلى أنه لا توجد علاقة بين الأمرين، والأهم أن اختيار الرئيس من حق مجلس النواب وهذا المجلس قد اتضحت توازنات القوة بداخله على ضوء انتخابات مايو الماضي. ورغم ذلك فإن ما بات يُعرَف بالعقدة المسيحية كان له نصيب كبير فى تعطيل التشكيل الحكومي. يضاف لذلك أن هناك جانبا شخصيا فى الموضوع، فجعجع لا يبتلع أن باسيل الشاب سيكون هو منافسه المقبل على منصب الرئاسة بعد أن كان منافسه عام 2016 هو ميشيل عون السياسى المخضرم صاحب الوزن الثقيل فى النظام والطائفة المارونية، وبالتالى فعندما يخرج باسيل ليقول إن هذا العدد من الحقائب ليس من حق القوات أو أنها لن تحصل على هذه الحقيبة السيادية فإن هذا يلمس وترا حساسا لدى جعجع. المؤشر الثالث هو محاولة جعجع التهدئة مع بعض أبرز الفاعلين السياسيين على الساحة اللبنانية وفى مقدمتهم حزب الله نفسه، فليس من قبيل المصادفة أن يشير جعجع فى خطابه فى 10سبتمبر الماضى إلى من أسماهم إخوتنا فى حزب الله، ثم إن خلاف باسيل مع نبيه برى يخلق فجوة ينفذ منها جعجع للتواصل مع حركة أمل فضلا عن مد خطوط الاتصال مع وليد جنبلاط وسليمان فرنچية. هل تفلح كلمات جعجع فى ترطيب مشاعر فريق 8 آذار ضده؟ التهدئة شىء والوصول لقصر بعبدا شىء آخر تماما وفيما بينهما توجد عُقَد كثيرة أهمها عُقدَة تطبيع العلاقة مع سوريا وحولها خلاف شديد بين 8 و 14 آذار. هكذا فقد ينتهى الماراثون اللبنانى إلى نهايته الطبيعية بتشكيل الحكومة نهاية هذا الشهر أو بعد ذلك، أما ماراثون رئاسة الدولة فسوف تجرى من تحته مياه كثيرة خلال السنوات الأربع المقبلة حتى تحين لحظة التسليم والتسلم. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد