فى قفص حديدى أنشئ خصيصًا بمواصفات تراعى الحد الأقصى من اشتراطات الأمن، وفى القاعة نفسها التى احتفل فيها قبل شهور، مع أركان حكمه بأعياد الشرطة، دخل مبارك فى ملابس السجن الاحتياطى البيضاء، ليرد على نداء رئيس محكمة جنايات شمال القاهرة، فى الثالث من أغسطس عام 2011، بصوت متحشرج خفيض: «أفندم». أثبت مبارك حضوره، فى أولى جلسات محاكمته، فى وقت كان الشارع المصرى لا يزال منقسمًا، ما بين مصدق بأن تلك الثورة التى أشعلها الشباب فى يناير من العام 2011، قادرة على إنجاز محاكمة عاجلة وعادلة لرأس النظام الذى حكم مصر بالحديد والنار، فى السنوات العشر الأخيرة لفترة حكمه، التى تجاوزت ثلاثة عقود إلا قليلًا، وبين منكر لقدرة الثورة الوليدة، على إنجاز تلك هذه المحاكمة التاريخية، فالضغوط العربية تتواصل، باتجاه إعفاء «الرجل المريض» من مثل تلك المحاكمة القاسية، بينما المحور الأمريكى- الإسرائيلى يُسارع الزمن، من أجل إجهاضها، حتى لا يتكلم مبارك، فيفضح فى سبيل تبرئة ساحته أمام التاريخ. عشت تلك الأيام المجيدة، وشاهدت بعينى صحفى، تابع الأحداث وشارك فى كثير منها، كيف استعاد الشعب المصرى إرادته، وأعاد كتابة تاريخه الحقيقى، وكيف تحوّلت محاكمة مبارك، إلى علامة فارقة فى بنية النظام السياسى المصرى، تجعل من مجرد الاقتراب من مقعد الرئاسة فى مصر، مسألة فى غاية التعقيد، ليس فقط لأن أى حاكم مهما بلغت سطوته، ووصل عنفوان حكمه، لن يكون معصومًا بصلاحيات الفرعون من المساءلة فحسب، وإنما لأنه لن يكون عصيًا فى أى وقت، على محاكمة على الهواء مباشرة، إذا ما أخفق فى تحقيق مطالب وطموحات شعبه. لم يكن مثول مبارك أمام محكمة الجنايات، انتصارًا فحسب للإرادة الشعبية، وإنما فى حقيقة الأمر كان انتصارًا مجيدًا لدولة سيادة القانون التى طالما حلم بها المصريون كثيرًا، فإن يمثل رئيس سابق أمام قاضٍ طبيعى، ولا يُساءل أمام محكمة عسكرية أو استثنائية، فهذا هو الإنجاز الذى يحق للمصريين أن يفرحوا به، مثل مبارك كمواطن مصرى عادى أمام محكمة عادية، ليُساءل على جرائمه ويُعاقب عليها بعد التحقق منها، فى جلسات علنية للمحاكمة، كانت أقرب للرسالة إلى العالم أجمع، تقول إن مصر أخرى تنطلق، وأن بلدًا جديدًا يولد من رحم المعاناة والألم، يتساوى فيه الجميع أمام القانون، عبر نظام قضائى لا يتستر على فساد، حتى ولو كان منبع هذا الفساد هو الرجل الأول فى سدة الحكم. يجرد حكم محكمة النقض الأخير، اللص العجوز من كل أمل، فى الاحتفاظ بالرتب والنياشين أو حتى الأوسمة التى حصل عليها طوال فترة خدمته، سواء فى القوات المسلحة أو مؤسسة الرئاسة، وهو ما يعنى حسب كثير من فقهاء القانون، حرمانه أيضًا من جنازة عسكرية لائقة عندما يوافيه الأجل المحتوم، وهو أمر من المؤكد أنه لم يكن ليلامس خيال أشد المعارضين لنظام مبارك، أو حتى يداعب أحلامهم فى يوم.. عاشت ثورة يناير. لمزيد من مقالات أحمد أبو المعاطى