لو لم يكتب تولستوى فى حياته سوى رواية «الحرب والسلام» لكفاه ولمَ لا؟ فقد خلدت اسمه وما زالت من أهم الروايات بالعالم وبسببها أطلق عليه البعض قيصر الرواية، وترجمت لمعظم لغات العالم وتحولت لأفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية وما زالت من أكثر الكتب مبيعا بالعالم رغم مرور سنوات طويلة على وفاة كاتبها. نشرت لأول مرة عام 1865وحتى 1869فى حلقات بمجلة المراسل الروسية. كان تولستوى مناهضا للعنف وداعية للمقاومة السلمية وتأثر به زعماء مثل غاندى ومارتن لوثر كينج ومانديلا.وقدم للعالم الحرب والسلام وهى ملحمة نثرية توازى ملحمة الإلياذة ورأى بعض النقاد أنها أفضل لاتساع الأحداث ودقة التفاصيل. تحكى «الحرب والسلام» عن المجتمع الروسى فى أثناء حكم القيصر الروسى ألكسندر وتبدأ أحداثها منذ عام 1805حيث غزا نابليون بونابرت غرب أوروبا وبدأت روسيا تتخوف من زحفه إليها وتحالفت مع إسبانيا ضده، وترصد عهد القيصر ألكسندر وتمتد حتى 1812، ولم يكتف بتأريخ هذه الحقبة بل قام بتحليل أحداثها سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا وكان شجاعا فى انتقاداته للمجتمع الروسى آنذاك. يأخذ تولستوى القارئ فى رحلة طويلة ممتلئة بالشغف لمتابعة الأحداث المتلاحقة والتغييرات الصادمة فى تطور بعض الشخصيات الرئيسية بالرواية والتحليلات العميقة الفلسفية التى يقدمها تولستوى ببساطة وعذوبة فائقة، وكيف لا يفعل وهو القائل:لا توجد عظمة حيث تغيب البساطة، الطيبة والحقيقة. تنقسم الرواية إلى أربعة مجلدات و15جزءا، وتبدأ بحفل للمترفين بروسيا حيث يقدم تولستوى شخصيات ملحمته الكثيرة والمتنوعة والتى تعدت المائتين، وقيل إن بعضها حقيقية ومنها شخصية تولستوى نفسه وأمه وأبيه وأنها سيرة ذاتية له ولأسرته ومعارفه، وبعضها تاريخية مثل نابليون والقائد العسكرى الروسى كوتوزوف؛ الذى حارب نابليون وتمكن من هزيمته فى النهاية وإجباره على الانسحاب من روسيا بعد رفض القيصر الروسى الاستسلام، وأخرى من خيال الكاتب تروى خمس أسر هي: آل روستوف، آل بزوخوف، آل كوراجين، آل دوبيتسكوي، آل بولكونسكي، تباينت بين الثراء الفاحش وضيق الحال وإن اجتمعت على أنها من أصول نبيلة ورصد تفاعلاتها مع الأحداث والمآسى فى زمن الرواية، ويحكى بأدق التفاصيل الإنسانية كيف حددت الحرب مسار هذه العائلات الأرستقراطية وتأثيرها على علاقات الحب والزواج والتماسك الأسرى وكشف زيف العلاقات وتمزقها فور تعرضها لأقل العوامل الخارجية. تمكن تولستوى من الاستحواذ على عقل القارئ ومشاعره وبرع فى وصف الحرب حتى كأن القارئ يكاد يرى الجنود وهم يتصارعون للبقاء وللانتصار لطرد المحتل وينصاعون لأوامر القادة، ولا يخفى تولستوى كراهيته العميقة للحرب ويرفضها ويسخر منها ومن صانعيها فيقول: دائما يريدون الهجوم ما هى الفائدة؟ وكأنه ممتع جدا أن نقتتل لا يريدون إلا أن يتميزوا. رفض الحرب وأكد مخاصمتها للبشر لارتكاب جرائم كثيرة فى أثنائها، ويبدى رأيه فى نابليون فيراه متكبرا ونرجسيا، ويؤكد بالرواية أن نابليون وقيصر روسيا لعبا دورا ثانويا فى الحرب وأن الإرادة الجماعية للشعوب هى التى تحرك التاريخ وتصنعه وفقا لقوانين أزلية ثابتة. وتكمن عبقرية تولستوى فى تضمينه آراءه فى الرواية ببراعة - وبلا أى خلل فى الصنعة الدرامية - فيتجاوب معها القارئ «وتوقظ» حيوية العقل وتنشط التفاعل مع الكاتب. فكتب عن الموت والتفكك الأسرى والانتهازية والمغزى من الحياة وأسئلة وجودية وفلسفية عديدة كالبحث عن الله وضوابط الحرية وأهمية المال بالحياة. والمعروف «تحرر» تولستوى من الخضوع للمال فى حياته حيث تعامل بسخاء مع الفلاحين ورفض عيش الأثرياء من طبقته وليس غريبا عليه ذلك؛ فهو القائل بالحرب والسلام: هل هى بحاجة لهذا المال؟ وكأن هذا المال سيضيف لها ذرة من السعادة، من السلام الداخلي. وقوله: الذى لا يخاف الموت يملك كل شىء يجب أن تكون إنسانيا فكلنا فانون. تميزت الحرب والسلام بالحبكة وبمنح كل الشخصيات الواقعية والحيوية حتى يكاد القارئ يراها ويتلمسها، وبدت الأحداث متماسكة وواقعية ومنطقية وكتبها بسلاسة وجاذبية وامتازت بروعة الوصف سواء القصور والصالونات الاجتماعية المترفة التى كان يرتادها النبلاء والارستقراطيون ليتحدثوا بشتى الأمور. واللافت للنظر أن تولستوى كتب حوارات هذه الطبقة باللغة الفرنسية فى إشارة واضحة إلى زيفهم ونفاقهم وخداعهم وبعدهم عن الارتباط بروسيا، بينما كتب باقى الرواية باللغة الروسية وكأنه يخصها بالحديث عن الشجاعة والحب والوفاء. فى الرواية يسخر تولستوى من انغماس المترفين وراء إشباع احتياجاتهم ولهاثهم الدائم وراء الأموال والممتلكات فيقول: خلق الإنسان من أجل السعادة وهى موجودة داخله وتبنى على إرضاء الاحتياجات الطبيعية للإنسان، وكل الشقاء يأتى لا من الحاجة ولكن من الإفراط. كشف تولستوى فى الرواية كيف يتغير الإنسان ثقافيا إثر تعرضه لأحداث لم يكن يتوقعها وبرز ذلك من خلال شخصيتى كل من «بيار بيزوكوف» و«أندريه بولكنسكى» اللذين تناقضت مواقفهما فى سنوات الحرب عما كانت عليه فى السلم.