يحتفل اليوم التاسع من سبتمبر محرك البحث العالمي جوجل بالذكرى ال186 لميلاد الأديب الروسي الأعظم الكونت" ليف نيكولايافيتش تولستوي"أحد عمالقة الروائيين الروس ومن أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر والبعض يعدونه من أعظم الروائيين على الإطلاق. كان يرتدي ثيابا فلاحية ويعمل في الحقل كفلاح بسيط من أين لهذا الإنسان الفتيّ من أسرة عريقة مثلُ هذا الولعِ بالحياة البسيطة وبأرضه الحميمة، في الوقت الذي فضَّل فيه الآخرون السفر والتمتع في باريس؟ ربما يكمن سر عظمة تولستوي في إقطاعية أسرته حيث أمضى قسما كبيرا من حياته، وحيث كتب جميع رواياته العظيمة؟ كان لإنتماءه لعائلة عسكريه نبيلة لها تاريخها في الحروب واشتراكه بنفسه في الحروب التي دارت رحاها في شبه جزيرة القرم بالغ الأثر في كتابته خاصة رواية "الحرب والسلام" ولعل ما يدهش أكثر من أي أمر آخر في هذه الرواية هو أنها أتت في الوقت نفسه تأريخًا عائليًا، وتأريخًا، عسكريًا للحملات النابوليونية التي قامت في العام 1805 ثم في العام 1812، الرواية التي كتبها تولستوي العام 1869، ليس هناك بطل واحد، وإن كان ثمة أشخاص مثل كوتوزوف والأمير اندريا وبلاتون كاراتاييف، بل نابوليون نفسه، يستحوذون علينا ويفتنوننا حتى حين يثيرون غضبنا. هزت آراؤه الدعائم الراسخة للمجتمع البشري في عصره٬ فحينما سيطرت الحروب على العالم وحياة الأمم كان تولستوي يرفض الحرب ويدعو إلى السلام، وفي عصرٍ شهد الانصياع التام لتعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، رفض الانسياق لها، كان تولستوي متسامحًا مع الإسلام ورسوله، وفنَّد الأناجيل وجمع صحيحها كما رآه في كتابه "الخلاص فيكم" المنشور عام 1893، الأمر الذي دفع الكنيسة إلى إصدار قرار بالحرمان الكنسي ضده، كما رفض الفلسفة الشيوعية التي انتشرت بين المثقفين الروس، ودعا إلى المساواة على طريقته مبدأً وممارسةً؛ فقد ترك أسرته الثرية وعاش مع المزارعين البسطاء ٬ واعتبرت أفكاره المحرض الرئيسي لاندلاع الثورة، ووصفه لينين: بأنه كان "مرآة الثورة الروسية"،كما كان أيضًا مصلحًا اجتماعيًا وداعية سلام ومفكر أخلاقي، واعتنق أفكار المقاومة السلمية الرافضة للعنف، والتي أثرت في مشاهير القرن العشرين مثل المهاتما غاندي، مارتن لوثر كينج في جهادهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية. كما تناول تولستوي في كتاباته الأدبية قضايا أخلاقية، ودينية، واجتماعية، وكان التحق بجامعة كازان عام 1844، لكن طريقة التدريس لم تعجبه، فهجرها بعد ثلاث سنوات إلى الأعمال الحرة في 1847، وبدأ بتثقيف نفسه، فكان عصامي الثقافة وبدأ مسيرته الإبداعية. والفريد في كتابات تولستوي هو أنك كقارئ لن تتأثر بكتابة تولستوي المحايدة تمامًا في رأيه بكل شخصية، إنما يترك الكاتب لك المجال لتحدد رأيك وموقفك وذلك إثارة للنقاش بين كل من يقرأ الرواية كما في روايته " أنّا كارينينا" التي تعد من أكثر الروايات إثارة للجدل حتى اليوم، ولأن تولستوي يناقش فيها إحدى أهم القضايا الاجتماعية التي واجهت كل المجتمعات الإنسانية، خاصة الأوربية بُعَيْدَ الثورة الصناعية، وما نتج عنها من اهتمام بالمادة، وما ظهر من أمراض تتعلق بالمال لدى الطبقات الأرستقراطية آنذاك. في شبابه، درّب تولستوي نفسه، وكأنه يستعد ليصبح رجلًا خارقًا، فلم يرحم نفسه على الإطلاق، كان يحمل بيديه الممدودتين معاجم ثقيلة، ويسوط ظهره العاري بحبل، ويقوّي إرادته، فقد أراد أن يصبح إنسانًا كما يجب أرستقراطيًا حقيقيًا، كان يتحدث بالفرنسية بطلاقة، ويستميل سيدات المجتمع الراقي، ويحب اللعب بالورق، علمًا بأنه غالبًا ما كان يخسر. في العقد السادس من عمره، عاش تولستوي أزمة عميقة، إبداعية وروحية، فقد خاب أمله بالأدب، بالحضارة وبالناس، وببساطة، يمكن القول بأنه تعب، حتى أنه ظهرت لديه فكرة الانتحار لا يوجد انسجام في هذا العالم، القوى يأكل الضعيف، يقضي الناس حياتهم في اللهو الفارغ وكان يؤلم تولستوي أن يرى ذلك، ولكن لم يستطع ألا ينظر آنذاك، ظهرت " التولستويوية"، فقد أخذ يدعو إلى التسامح وعدم مقاومة الشر بالعنف، كانت هاتان المسلّمتان الأساسيتان عماد دينه الجديد، فالجوهر بسيط، يجب توزيع الثروة، الاتجاه نحو الشعب، الصبر على الحرمان، العيش حياة بسيطة، ولكن في الحقيقة فإن تولستوي لم يوزع ثروته ولم يترك ممتلكاته، وكان يشعر تمامًا بهذا التناقض، وكان هذا يعذبه كثيرًا، فقد كتب: " أيعقل، أنني سأموت ولم أعش سنة واحدة على الأقل من دون هذا البيت المجنون وغير الأخلاقي، ولم أعش سنة واحدة على الأقل بصورة إنسانية معقولة، أي في قرية وليس في أملاك النبلاء، بل في بيت فلاحي وسط الكادحين، أتناول الطعام وأرتدي مثلهم، وأحدث الجميع بلا خجل عن تلك الحقيقة المسيحية التي أعرفها". تزوج تولستوي من "صوفيا أندرييفنا بيرس"، وكانا ينجبان طفلًا في كل سنة تقريبًا، وكانت صوفيا امرأة فريدة من نوعها، فإضافة إلى أنها تحمّلت طباع تولستوي الصعبة، كانت تساعده أيضًا، فقد أعادت كتابة رواية " الحرب والسلم" أربع مرات، بل حتى سبع مرات حسب بعض الأقوال، وكانت تستمع إليه، وحتى تقدم له بعض النصائح، كانت زوجة كاتب حقيقية. كان تولستوي يملك طاقة هائلة، فقد تعلم اللغة اللاتينية والعبرية القديمة، وقرأ حكماء الصينيين، وحاول ركوب الدراجة الهوائية، ولم ينغلق أبدًا على نفسه، بل اهتم بشئون الفلاحين والجنود والمشردين، وفي زمن المجاعة في الأقاليم الوسطى، كان يجمع الأموال لصالح الجياع، كما توافد البؤساء إلى أرضه في "كراسنايا بَلْيانا" من كل حدب وصوب، فقد كانوا يعرفون أن تولستوي سوف يساعدهم، هكذا أصبح تولستوي شخصية لها هيبتها الأخلاقية، ورمزًا للنزاهة والرحمة. كان تولستوي يعدّ أقرباءه مجانين، بينما كانوا يعدّونه أنه هو المجنون، حتى أن زوجته نصحته بالذهاب إلى مناطق المياه المعدنية للعلاج من الانهيار العصبي، فقد كانت تحبه بصدق، ولكنها لم تفهمه على الإطلاق، فكيف يمكن التخلي عن المال، عن الأرض، عن حقوق الملكية الأدبية؟ وعندما حاول الخروج، هددته بالانتحار، وذات مرة حاولت بالفعل أن ترمي نفسها أمام القطار، مثل بطلة رواية " آنّا كارينينا"، وبالكاد استطاعوا أن يقنعوها بالعدول عن ذلك، فأعلنت آنذاك أنه إذا بدأ بتوزيع ثروته فسوف تطلب الوصاية عليه، وإدخاله إلى مشفى الأمراض العقلية، وبذلك تبقى الأملاك في أيدي الأسرة. ومع ذلك فقد ذهب، في الليل، سرًا دون أن يعرف أحد، وترك رسالة لزوجته كتب فيها أنه لا يستطيع العيش في هذا الترف الذي يحيطه، وأنه يريد أن يقضي سنواته الأخيرة في عزلة وهدوء، ولكنه في القطار تعرض لنزلة برد، فانزلوه في محطة "أستابّوفو" في حالة صحية صعبة، وخلال الساعات الأخيرة من حياته كان تولستوي في حالة اضطراب كامل، فقد كان يقول:" أيها الرجال، أيها الرجال، كيف يموتون، سأموت، كما يبدو، وأنا محمّل بالخطايا"، وقبيل وفاته، نظر أمامه وقال:"لا أدري ماذا على أن أفعل!"، أما آخر كلماته فكانت: "يموت كثير من الناس في هذا العالم، أما أنتم فتنظرون إلى أسد واحد ".