توفى منذ أيام الاقتصادى والمفكر المصرى جلال أحمد أمين، وبذلك فقدت مصر والمنطقة العربية واحدا من أبرز أبنائها، بما قدمه للأمة العربية من آراء وأفكار من خلال تدريسه فى الجامعات، خاصة من خلال مؤلفاته وكتاباته فى مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عمن تعلم على دروسه من الطلبة سواء فى جامعة عين شمس أو الجامعة الأمريكيةبالقاهرة. ومعرفتى بجلال أمين ترجع إلى أكثر من ستين عاما، حيث بدأت حين تخرجت فى جامعة القاهرة وعملت مندوبا مساعدا بمجلس الدولة فى نهاية 1957. وكان جلال أمين قد سبق له العمل بنفس المؤسسة القضائية، ثم سافر فى بعثة إلى انجلترا موفدا من جامعة عين شمس حيث عين معيدا بها، وذلك للحصول على الدكتوراه فى الاقتصاد. وبعد ذلك بسنتين، سلكت نفس المسار تقريبا، إذ عملت أيضا بمجلس الدولة, حيث تعرفت عليه, ثم اخترت لبعثة لجامعة الإسكندرية للحصول على الدكتوراه فى الاقتصاد من فرنسا. وبعد حصولى على دبلوم الدراسات العليا فى الاقتصاد من فرنسا قررت ضرورة قضاء فترة مناسبة فى انجلترا، حيث التحقت بجامعة كمبردج كطالب منتسب. وهنا بدأت صداقتى الحقيقية لجلال أمين، والذى كان يدرس فى لندن فى ذلك الوقت. وبعد التحاقى بجامعة كمبردج، كنت أذهب إلى لندن فى العطلة الأسبوعية خلال الفترة الأولى من دراستى فى كمبردج. وكانت هذه الرحلة الأسبوعية إلى لندن فرصة للالتقاء بزملائى الدارسين فى لندن، وخاصة جلال أمين. وبعد هذه الرحلة الدراسية عدنا إلى مصر فى منتصف الستينيات حيث عمل مدرسا للاقتصاد فى جامعة عين شمس، وعينت مدرسا للاقتصاد بجامعة الإسكندرية. وبالعودة إلى مصر توثقت العلاقة بيننا، وكنا نلتقى أسبوعيا فى كلية الاقتصاد بالقاهرة، حيث كنا، هو وأنا، منتدبين للتدريس فى كلية الاقتصاد. وفى أحد هذه اللقاءات الأسبوعية فى كلية الاقتصاد، سألنى ونحن على الدرج فى طريقنا للعودة لمنازلنا، وكان سؤاله، ألا تفكر فى الزواج؟ وكانت إجابتى، بأننى بالفعل أفكر فى الموضوع. فقال لى: إننى أرشح لك عروسا، هى أخت زوجة حسين أخى. فقلت له ولما لا؟ وقد كان، وبذلك توثقت العلاقة بيننا، ولم يعد الأمر مجرد زمالة فى المهنة بل أصبحت أيضا علاقة نسب عائلية. والحديث عن جلال أمين يظل قاصرا إذا اقتصرنا على شخصه، دون أن نتعرض للعائلة التى ولد بها. فجلال أمين هو ابن المفكر الإسلامى المعروف أحمد أمين. وعندما نتحدث عن تاريخ النهضة الفكرية فى مصر فى القرن العشرين، فإن اسم أحمد أمين لابد أن يأتى فى المقدمة ضمن قائمة المصلحين من المفكرين فى مصر الحديثة. فقد كان أحمد أمين «وهو الأزهرى» الذى تعلم من خلال الأزهر ومدرسة القضاء الشرعى، أحد أهم رموز حركة التنوير فى النصف الأول من القرن العشرين. وقد عمل أحمد أمين قاضيا بالمحاكم الشرعية ثم أستاذا جامعيا بكلية الآداب فى جامعة القاهرة حتى أصبح عميدا لهذه الكلية، وقد كان أحمد أمين من رواد النهضة الفكرية فى ذلك الوقت، وكان لكتاباته تأثير كبير على حركة التنوير فى النصف الأول من القرن العشرين. وكانت أهم كتب أحمد أمين عن الإسلاميات «ضحى الإسلام، ظهر الإسلام...» فضلا عن مؤلفات عن زعماء الإصلاح، وعلمتنى الحياة.. والقائمة طويلة. ولم يكن أحمد أمين فريدا فى عائلته، فقد أنجب ستة ذكور وبنتين، وقد تميز جميع أبنائه بالمساهمة فى الحياة الفكرية والعلمية لمصر، وكان لكل منهم دور فى الإثراء العلمى والثقافى لمصر، وهؤلاء هم على التوالى: محمد الابن البكر وكان أحد المهندسين المتميزين، وعبدالحميد وعمل أستاذا لامعا بكلية العلوم، وحافظ وهو مهندس ولكنه أديب يكتب الروايات والقصص، وأحمد وكان مهندسا شغل أعلى المناصب الحكومية، وحسين وكان سفيرا بوزارة الخارجية ومن أهم الدارسين للحضارة الإسلامية، وأشهر كتبه دليل المسلم الحزين والذى نال شهرة واسعة، وهو أيضا نسيبى حيث تزوجت أخت زوجته، وأخيرا جاء جلال آخر العنقود. وجلال أمين اقتصادى متميز بين زملائه، وله شعبية هائلة بين طلبته سواء فى جامعة عين شمس أو فى الجامعة الأمريكية، فضلا عن جمهور واسع من القراء فى مختلف الأوساط فى مصر وفى معظم الدول العربية. وجلال أمين, مثل بقية إخوته, متعدد الاهتمامات، وكان أحد رواد فكرة القومية العربية والتى انتشرت فى بداية الخمسينيات مع ميشيل عفلق وحزب البعث فى سوريا، وقد كان اهتمامه بالأدب العربى وخاصة الرواية العربية كبيرا. وإذا كان جلال أمين أحد أهم الاقتصاديين فى مصر والعالم العربى، فإن الاقتصاد لم يكن الأقرب إلى قلبه، بل كان اهتمامه الأكبر هو بالتغيير الاجتماعى والثقافى فى مصر والدول العربية. ومن هنا، فإن أقرب مؤلفاته إلى قلبه هو كتاب ماذا حدث للمصريين؟ وفى هذا الكتاب ثم فى مقالاته الأخيرة، أشار إلى أهم التغيرات فى الحياة الاجتماعية فى مصر فى الفترة من 1945 - 1995، ثم ما بعدها، وجاءت الغالبية من كتاباته الصحفية الأخيرة هى الإضافة والتنويع على كتاب ماذا حدث للمصريين. وإذا كانت حياة جلال أمين قصة نجاح له ولوطنه، فلابد أن نتذكر أن هذا الإنجاز لم يتوقف على ما تمتع به جلال من قدرات عقلية عالية، ومُثل أخلاقية راقية، فضلا عن النشأة فى عائلة شرقية مع أب منفتح على العالم المعاصر فى أسرة تمتع كل أفرادها بالذكاء والجدية.. وأيضا خفة الدم. ولكن كل هذا لم يكن كافيا، فقد تزوج جلال من سيدة إنجليزية مثقفة, جان, أحبته وأحبت مصر، ووفرت له حياة أسرية راقية. فتحية لهذه الزوجة الرائعة، ومتعها الله بالصحة والعافية. لقد فقدت مصر بوفاة جلال أمين قامة كبرى تعتز بها مصر وأبناؤها، فضلا عن أبناء الوطن العربى. لقد أدى جلال رسالته فى تنوير جيل كامل من الشباب وغيرهم، وكان مثالا للأصالة والفكر الراقى، رحم الله الفقيد، وألهم أسرته الصبر. لقد فقدت مصر بوفاة جلال أمين مفكرا عربيا ومصريا أصيلا. والله أعلم. لمزيد من مقالات ◀ د. حازم الببلاوى