نستكمل فى الحلقة الثانية من كتاب رئيس الوزراء السابق، الدكتور حازم الببلاوى «شخصيات على مسيرتى» الحديث عن ملامح مرحلة ثرية فى مشواره، منذ سافر إلى الخارج فى بعثات للدراسة والعمل تنوعت من إنجلترا إلى الكويت، وما رآه فى جامعات كامبردج وإكسفورد، وما حدث خلال ثورة الطلبة فى العاصمة الفرنسية باريس، مرورا بشخصيات رافقته المشوار على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية، بدء من (اليسارى) حسام عيسى، نائبة فى حكومة ثورة 30 يونيو، وحتى (اليمينى) أحمد جامع. يتحدث الببلاوى خلال هذا الفصل عن اختياره كمرشح أصيل فى ثلاث من البعثات التى تقدم لها، فى جامعات القاهرة، عين شمس، والإسكندرية. وعن ذلك يقول: "تصادف أن انعقدت لجنة البعثات لجامعة الإسكندرية أولا، فوقع على الاختيار لهذه البعثة، وتأجل البحث فى بعثات الجامعات الأخرى لجلسة لاحقة، وقامت سكرتارية اللجنة بشطب اسمى من بعثات القاهرة وعين شمس على أساس أن لجنة البعثات قد اختارتنى بالفعل فى بعثة أخرى، وكنت شخصيا أفضل القاهرة، فهى المدينة التى نشأت بها، فضلا عن اعتقادى أن القاهرة كانت دائما مصدر الإشعاع الفكرى". لم أنسَ أننى كنت صاحب أعلى الدرجات فى الاقتصاد وفى كل المواد خلال سنوات الدراسة فى الجامعة، بالنسبة إلى جميع المتقدمين إلى تلك البعثات، ولكن شاءت الظروف أن يختار لى القدر الإسكندرية لأسباب إدارية بيروقراطية متعلقة بإجراءات وتواريخ انعقاد جلسات لجنة البعثات. ورغم أنه أصابنى بعض الإحباط، فقد كانت تجربة مهمة ومفيدة، وأعتقد أنها وفرت لى رغم أنفى مزايا كبيرة فيما بعد، فجو العمل الأكاديمى فى جامعة الإسكندرية أكثر هدوءا وحثّا على العمل، والإسكندرية بلد جميل.. كذلك فإن عملى فى جامعة الإسكندرية فرض علىَّ فيما بعد تحديا لإثبات الذات، ومن ثم كان لابد من مواجهته بالعمل ومحاولة التميز. يضيف: عندما عدت من البعثة مدرسا بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، شعرت بشىء من الظلم، فالإسكندرية ليست القاهرة، ومظاهر الحياة الفكرية والثقافية تدور فى القاهرة وقلمَّا تشارك فيها الإسكندرية، كذلك فإن عملى الجديد فى كلية الحقوق وهى أساسا كلية لدراسات القانون جعل من دراسات الاقتصاد مادة مكملة ومساعدة فى كلية للدراسات القانونية بشكل أساسى. وكان هذا تحديا كبيرا. بعثات للدراسات العليا: سافرت إلى البعثة فى 6 أغسطس 1960 من الإسكندرية على الباخرة أوزينا المتجهة إلى البندقية، ومنها بالقطار إلى باريس. وصلنا إلى باريس بالقطار فى 14 أغسطس، وكان يوما غائما. وكنا أربعة سافرنا معا على نفس الباخرة: سمير تناغو، وباهر عتلم، وسامى عبدالحميد، وأنا، وكلنا أعضاء بعثات إلى فرنسا. وذهبنا مباشرة إلى الحى اللاتينى ونزلنا فى فندق فى شارع جاى لوساك أمام حديقة لوكسمبرج وعلى بعد خطوات من كلية الحقوق والبانتيون. وبدأت رحلة التنوير. وبعد عدة أيام التقينا زملاءنا المصريين الذين سبقونا إلى فرنسا، وعلى رأسهم أحمد القشيرى، وهو أكبر منا بعدة سنوات، وكان يعمل فى مجلس الدولة ثم اختار العمل فى الجامعة وسافر إلى البعثة. وكان أكثر نضجا وكنا نشعر نحوه بشىء من الاحترام لخبرته. وكان يدرس القانون الدولى الخاص فى جامعة رين فى بريتانى، ونصحنا بعدم البقاء فى باريس وقال إنه من الأفضل أن نتوزع على الجامعات الإقليمية حيث إمكانية الإفادة العلمية أكبر. فى جرينوبل كانت بعثاتنا ممولة فى السنة الأولى بمنح من الحكومة الفرنسية التى تغطى جزئيّا تكاليف البعثة والباقى تتحمله الحكومة المصرية. ووفقا لقواعد المنحة الفرنسية كنا نسكن فى حدود معينة من الإيجار، ولذلك فقد عرض علىَّ السكن فى فندق متواضع فى آخر المدينة (جرينوبل)، وهى مدينة فرنسية تقع فى جنوب شرق البلاد، عاصمة الألب الفرنسية وهى ثانى أكبر مدينة بعد ليون. يتحدث رئيس الوزراء السابق عن «مفارقة» فى فترة حرب الجزائر للاستقلال وما ارتبط بها من اضطرابات فى فرنسا، فيقول: استوقفنى شرطى وأنا ذاهب إلى الحمام بأحد الفنادق، اعتقادا منه أننى جزائرى وجه عربى وربما اعتقد أننى أحمل قنابل فى الحقيبة التى كانت فيها ملابس للغيار بعد الحمام. وبعد فترة من الزمن وجدت من الأيسر أن أتوجه إلى فنادق يقطن بها أصدقائى. سبب لى ذلك بعض المضايقات من مديرة أحد تلك الفنادق، التى اكتشفت أن هذا الأسمر الصغير هكذا كانت تنادينى (Le petit brun) يأتى لاستخدام حمام الفندق بدون مقابل. ولكننى كنت لا أبالى بصياحها. وبعد ذلك لم أتحمل طويلا الحياة فى هذا الفندق المتواضع وانتقلت إلى حجرة فى منزل أسرة فرنسية، وكان صاحب المنزل من أصل إيطالى، لم تكن العائلة مزعجة بالنسبة لى، وإن لم تكن أيضا كريمة أو محببة. كامبريدج تحت عنوان: إلى كمبردج.. يتحدث الببلاوى فى مؤلفه عن تحضيره رسالة للدكتوراه بعنوان: علاقات الترابط بين الزراعة والصناعة والتنمية الاقتصادية، حالة مصر.. خلال السنة الأولى للإعداد للرسالة اكتشفت أن الاقتصاد هو فى أساسه علم أنجلو سكسونى، وأن المراجع الأساسية هى مراجع إنجليزية أو أمريكية. ورغم توافر هذه المراجع فى فرنسا، فقد شعرت بأن تكوينى العلمى يقتضى أن أمضى فترة دراسية فى إنجلترا بالفعل، كتبت لجامعة كمبردج لقبولى لسنة دراسية فيها، وطلبت موافقة جامعة الإسكندرية، الأمر الذى تحقق بسهولة كبيرة. فكان أن سافرت إلى إنجلترا فى سبتمبر 1962. وكانت عائلتى قد جاءت لزيارتى فى باريس فى صيف هذه السنة وتجولنا فى النمسا وألمانيا. وقد سمح لى مدير البعثات فى باريس آنذاك بحضور المؤتمر الدولى للاقتصاد المنعقد فى فيينا، فسافرت إلى هناك على حساب الحكومة المصرية. يسرد: أثناء وجودى فى النمسا، وصلنى خطاب القبول فى جامعة كمبردج، فعدت بعد هذه الإجازة الصيفية إلى باريس وحملت أمتعتى إلى لندن حيث أمضيت عدة أيام قبل أن أنتقل إلى كمبردج حيث سجلت كطالب أبحاثا للدراسات العليا، وقبلت فى كلية «فيتزوليام»، بالإضافة إلى قيدى فى مدرسة الاقتصاد. ويقول رئيس الوزراء السابق عن هذه الفترة من حياته: طوال إقامتى فى كمبردج، كنت فى حيرة تامة وقلق دائم من حيث توزيع وقتى، هل أنصرف إلى إعداد الرسالة وتجميع المراجع اللازمة لرسالتى، أم أحاول أن أستغل وجودى فى كمبردج وأتابع أكبر قدر من الدروس والمحاضرات على يد هذه النخبة من كبار الأساتذة، وقد ظلت هذه الحيرة طوال السنة، وانعكست على سلوكى فكنت أنصرف إلى المحاضرات شهرا أو نحو ذلك ثم أشعر بتأنيب لأننى تركت الرسالة، فأعود إلى العمل فى الرسالة أسبوعا أو اثنين وتتكرر الدورة. وكمبردج ليست جامعة فقط، رغم أن الجامعة هى المحور الأساسى لحياة المدينة، فهى مدينة صغيرة على نهر «كام» ومن هنا اسمها الذى يعنى بالعربية «جسر الكام»، ويقطعها النهر وحوله حدائق من النجيل الأخضر الممتد على مساحات كبيرة. ويمتلئ النهر بالقوارب إذ يعتبر التجديف من أهم اهتمامات كمبردج، ومسابقات التجديف والمنافسة حولها وخصوصا مع أكسفورد يعتبر أحداثا مهمة ينشغل بها الجميع، وهى أقرب إلى منافسات الدورى لكرة القدم بين الأهلى والزمالك فى مصر. وعن طبيعة الكليات يقول: تتوزع وأغلبها مبنى منذ القرن السابع عشر وما بعده على الطراز القوطى وأجملها كلية الملك، وتقطع النهر جسور متعددة، أحدها فيما أعتقد يمر إلى جوار المختبر الذى كان يعمل فيه نيوتن. يختتم: تركت كمبردج فى صيف 1962 وعدت إلى القاهرة لقضاء إجازة وللحصول على أكبر قدر من البيانات والإحصاءات اللازمة لرسالتى. حسام عيسى وأحمد جامع وغزلان يتحدث الببلاوى عن حسام عيسى أحد رموز القانون فى مصر، وزير التعليم العالى بعد ثورة 30 يونيو، كما يتطرق إلى مقارنة بينه وبين أحمد جامع عميد كلية الحقوق جامعة عين شمس الأسبق، ويدين بالفضل إلى رئيس قسم الاقتصاد بجامعة الإسكندرية إبراهيم غزلان. قائلا: كان حسام عيسى وأحمد جامع على طرفى نقيض، ربما فى كل شىء. فحسام يسارى ماركسى عاطفى ومتحمس دائما، وأحمد يمينى واقعى إلى أقصى الدرجات، فكل شىء عنده قابل للقياس والتخطيط. وبطبيعة الأحوال، كانت هناك خلافات مستمرة بينهما. وكانت علاقتى بهما جيدة، وغالبا ما أقوم بدور الحكم بينهما. وكانت المناقشات لا تتوقف، وكذا الخلافات، ولكن كانت هناك أيضا ظروف الحياة المشتركة التى وثقت العلاقة بيننا. ويضيف: واجهتنا فى فرنسا صعوبات الدراسة الجديدة، واللغة التى بدا أنها تستعصى على الانصياع على الأقل فى الفترة الأولى والمغامرات مع الجنس الآخر، فضلا عن أحوال الفقر المشترك وذوبان المرتب قبل نهاية الشهر. ومن أمثلة مغامرات الفقر ما واجهناه بعد وصولنا إلى جرينوبل. فقد كانت البعثة تبدأ رسميّا فى أكتوبر 1960، ولكننا قررنا السفر قبل «بدء البعثة»، فى أغسطس على أن نتحمل على نفقتنا الخاصة المصاريف حتى أول أكتوبر. واستخدمنا مواردنا الذاتية المحدودة على هذا الأساس، وذلك بافتراض أنه فى أول أكتوبر سوف يصل إلينا أول مرتب رسمى من الحكومة المصرية. ولكن لما كانت البيروقراطية المصرية ذات باع طويل فى تعقيد الحياة أمام الأفراد، إذا بالموظف المسئول عن الشئون المالية فى مكتب البعثات فى باريس الأستاذ حلمى يجد نصّا فى إحدى اللوائح يقرر أن مرتب البعثة يصرف فى أول الشهر بالنسبة للطلبة القادمين من القاهرة؛ أما إذا كان الطالب مقيما فى فرنسا عند حصوله على البعثة فإن المرتب يصرف فى آخر الشهر. ونظرا لأننا وصلنا إلى باريس قبل أول أكتوبر وبالتالى قبل بدء البعثة، فينبغى فى نظره أن يطبق هذا النص علينا. وأبلغنا الأستاذ حلمى بهذا الاكتشاف الخطير فى أول أكتوبر عندما نضبت كل مواردنا القليلة. وكانت أياما بائسة. ويقول: «تظلمنا وأنفقنا معظم ما تبقى لدينا من نقود فى إرسال خطابات لمكتب البعثات أو فى الحديث فى الهاتف مع مدير البعثة، ولكن القانون.. قانون. وكان هذا حال جميع زملائنا فى المدن الأخرى، وكنا نتداول النوادر عن الأوضاع المالية بين الطلاب فى جرينوبل، وفى كان وفى بواتييه، وفى تولوز، وغيرها من المدن التى توزعنا عليها. وأخيرا وجد الأستاذ حلمى مخرجا فأرسل لنا النقود ووصلت إلينا فى جرينوبل يوم 17 أكتوبر وصادف أن كان ذلك أيضا يوم عيد ميلادى». وكثف الببلاوى حديثه عن شخصية أخرى مؤثرة فى حياته فى تلك الفترة، وهو إبراهيم غزلان رئيس قسم الاقتصاد بجامعة الاسكندرية، فيقول: أدين بالكثير لعملى بجامعة الإسكندرية، إذ عملت مع أستاذ فاضل هو الدكتور إبراهيم غزلان، رئيس قسم الاقتصاد، وهو على علم وخلق عظيمين، وربما لم أقابل فى حياتى من هو أكثر منه أمانة وتمسكا بالقيم. وقد كان له فضل كبير فى تكوينى، إذ أصر على أن أتولى تدريس إحدى المواد الأساسية فى الاقتصاد النقود وألزمنى بضرورة إعداد كتاب فى الموضوع قائلا: إن هذا هو الأسلوب الوحيد للتعليم. ولذلك بدأت بإعداد كتب فى الاقتصاد، وفى سن مبكرة نسبيا. الكويت يقول الببلاوى فى ختام هذا الفصل: فى إطار عناصر التكوين أشير إلى تجربتين لاحقتين كان لهما أثر عميق فى تكوينى: الأولى هى عملى فى الكويت، والثانية هى تأسيسى للبنك المصرى لتنمية الصادرات. أما رحلة الكويت فقد أمضيت فيها أكثر من عشر سنوات، على مرحلتين: الأولى أستاذا فى جامعة الكويت، والثانية فى الصندوق العربى والبنك الصناعى. عن فترة جامعة الكويت فقد كنت متوجسا أن تفتر فيها همتى عن متابعة الدراسة فى هذا الجو الجديد الذى يدعو إلى الاسترخاء، ولذلك تقدمت للقيد كطالب حر فى كلية العلوم، لدراسة الرياضيات البحتة. وأمضيت فى دراسة الرياضيات فى كلية العلوم بالكويت ثلاثة أعوام، إلى جانب قيامى بالتدريس فى كلية الاقتصاد. وأما فترة الصندوق العربى، خاصة ما بعدها فى البنك الصناعى ووزارة المالية فى الكويت، فقد أتاحت لى فرصة الاحتكاك بالخبراء والمستشارين الأجانب. فالكويت تملك إمكانات هائلة سمحت لى من خلال العمل بالاحتكاك بالعديد من مكاتب الاستشارات الأجنبية والمؤسسات الدولية. ساعد ذلك على زيادة خبراتى ولعلى أشير إلى فائدة أخرى اكتسبتها نتيجة عملى فى الكويت، وهى الالتقاء بعدد كبير من الشخصيات العامة والفكرية فقد استقطبت الكويت فى هذه الفترة، خاصة منذ منتصف السبعينيات نخبة من المثقفين والعلماء المصريين والعرب، وتعرفت خلال إقامتى بالكويت بعدد كبير منهم. يذكر الببلاوى بعض الأسماء التى تعرف عليها فى الكويت أو توثقت علاقاته بهم، أمثال الدكتور زكى نجيب محمود، والدكتور توفيق الطويل، والدكتور فؤاد زكريا، وأحمد بهاء الدين، والدكتور أحمد كمال أبوالمجد والدكتور إسماعيل غانم، والدكتور سعيد النجار، والدكتور إبراهيم شحاتة، والدكتور إبراهيم سعدالدين، والدكتور جلال أمين، والدكتور سمير تناغو، والدكتور حسن كيرة، والدكتور عبدالعزيز كامل، والدكتور مفيد شهاب، وفهمى هويدى، ومصطفى نبيل، ومحمود السعدنى، والقائمة طويلة جدّا. وهكذا لم تكن الكويت مجرد مرحلة لتحسين الأوضاع المالية، بل كان لها جوانبها العلمية والثقافية أيضا. وأخيرا، فإن تجربة إنشاء البنك المصرى لتنمية الصادرات (1984 1995) كانت، هى الأخرى، تجربة فريدة للببلاوى، فيقول: أصبح البنك فى خلال سنوات قليلة، واحدا من أنجح المؤسسات المالية فى مصر. وكانت تجربة هائلة فى الإدارة، رغم أن جده رفض التعامل مع البنوك لأنها ربوية كما ذكر فى الحلقة السابقة. وبعد ذلك انتقلت للعمل فى الأممالمتحدة اعتبارا من 1995 وحتى نهاية عام 2000. وبانتهاء عملى فى الأممالمتحدة طلب منى رئيس صندوق النقد العربى جاسم المناعى العمل مستشارا للصندوق، وأخيرا جاءت الوزارة ثم رئاسة الوزارة.