خلفت الحرب الاستعمارية الفرنسية فى الجزائر، ورغم انتهائها بحصول هذا البلد العربى الشقيق على الاستقلال، جروحاً عميقة لم تلتئم بعد ولا تزال مفتوحة، وتظل حتى الآن آثارها وتداعياتها تخيم على الجدل السياسى فى كل من فرنساوالجزائر على حد سواء، كما أن الكثير من الحقائق المتعلقة بهذه الحرب التى وصفها ماكرون قبل صعوده إلى الرئاسة الفرنسية بأنها «جريمة ضد الإنسانية» لا تزال غائبة أو مغيبة لم يكشف الستار عنها بعد. ولا شك أن الحقيقة عندما يتم الكشف عنها تكون مؤلمة وموجعة خاصة عندما تكون هذه الحقيقة بشعة ومخجلة ويستوى فى هذا الأمر الأفراد والدول، ومع ذلك فإن الكشف عن الحقيقة يبدو أنه الطريق الوحيد والضرورى للتخلص من ميراث الماضى وفتح صفحة جديدة والتطلع إلى مستقبل أفضل ولأن تجاهل الحقيقة والتنكر لها يفتح الطريق لمضاعفات وتراكمات نفسية سلبية. هذا هو الطريق الذى اختاره الرئيس الفرنسى باعترافه بمسئولية الدولة الفرنسية عن التعذيب والاعتقال التعسفى والإدارى فى مناطق محظور الدخول إليها فى الجزائر أثناء الحرب الاستعمارية الفرنسية فى الفترة الممتدة من 1954 وحتى 1962، وفق اعتراف الدولة الفرنسية بمسئوليتها عن هذه الممارسة فإن هذا الاعتراف يعيد بناء الحقيقة فى جانب من جوانب هذه الحرب. شكل التعذيب والاعتقال الإدارى ومصادرة الحريات للمعتقلين موضع الشك والاتهام من قبل السلطات الفرنسية جزءا لا يتجزأ من منظومة منهجية وقانونية حيث فوضت الجمعية الوطنية «البرلمان» الفرنسى، قوات الجيش الفرنسى فى الجزائر فى عام 1956 صلاحيات خاصة لاستعادة النظام والأمن فى الجزائر من بينها قيام القوات الفرنسية فى الجزائر بمهام البوليس فى الاعتقال والاستجواب واستخدام كل الوسائل فى مواجهة مناضلى جبهة تحرير الجزائر والمتعاطفين مع استقلال الجزائر. وبناء على ذلك فإن ممارسة التعذيب والحجز والاعتقال لم تكن مجرد ممارسات فردية أو تخص الجيش الفرنسى بل ممارسات شاركت فيها الدولة الفرنسية بجميع مؤسساتها التشريعية والتنفيذية ومن ثم فإن الدولة مسئولة عنها. ينخرط إعلان ماكرون مسئولية الدولة الفرنسية عن التعذيب فى سلسلة من الخطوات التى ذهبت فى هذا الاتجاه وتعتبر بمثابة تتويج لهذه الخطوات ودفعها إلى الأمام بدرجة أكبر، من بين هذه الخطوات إعلان جاك شيراك الرئيس الفرنسى الأسبق فى عام 1995 مسئولية الدولة الفرنسية عن الجرائم التى ارتكبت فى حق اليهود فى ظل حكومة فيشى أثناء الحرب العالمية الثانية، وكذلك اعتراف الجمعية الوطنية الفرنسية فى عام 1999 بأن ما حدث فى الجزائر كان حربا من 1954 إلى 1962 ولم يكن مجرد عمليات لحفظ النظام ضد المتمردين، وإدانة فرانسوا هولاند الرئيس السابق عام 2012 النظام الاستعمارى الفرنسى فى الجزائر. ومع ذلك فإن إعلان ماكرون يتجاوز مجرد توصيف ما حدث فى الفترة المشار إليها بأنه حرب أو إدانته، لأن هذا الإعلان قرر فتح الدولة للأرشيف الوطنى لهذه الفترة ودعوة شهود العيان على هذه الفترة أو أحفادهم وكذلك المؤرخون والجمعيات الأهلية المتخصصة فى ملفات هذه الحقبة للإدلاء بآرائهم وشهاداتهم للمساهمة فى كشف الحقيقة حول الممارسات التى وقعت ووقائع الاختفاء والتعذيب والقتل لضحايا هذه الحقبة. ورغم أن هذا الاعتراف بمسئولية الدولة الفرنسية لن يصلح ما أفسده الدهر، إلا أنه ينخرط فى إعادة بناء الرواية الحقيقية للأحداث التى شهدتها هذه الفترة وإزاحة الرواية الرسمية السائدة ويسهم فى تخفيف آلام ذوى الضحايا وأسرهم والجمعيات التى تدافع عن حقوقهم. يفتح هذا الإعلان الباب للصراع والنقاش فى الحياة السياسية الفرنسية بين الذين كانوا يؤيدون استقلال الجزائر وأولئك الذين كانوا يرونها فرنسية وهذا النقاش والجدل لن يكون فى مقدوره حجب الحقيقة إلى الأبد. من المؤكد أن إعلان ماكرون لم يرق إلى مستوى المطالب الجزائرية فى الاعتراف بالجرائم التى ارتكبت فى الحقبة الاستعمارية من 1830 إلى 1962 والاعتذار عنها رسميا، ولكنه يعتبر خطوة من شأنها تعزيز شرعية المطالب الجزائرية وفتح الباب لتسوية المشكلات العالقة بين الجانب الفرنسى والجانب الجزائرى خاصة اللجان المشتركة التى شكلت بينهما حول الملفات التاريخية التى تخص الحقبة الاستعمارية وهى الأرشيف الجزائرى المحتجز فى فرنسا وقضية المفقودين خلال هذه الفترة والتفجيرات النووية الفرنسية فى الجنوب الجزائرى والتعويض عنها وجماجم المقاومين الجزائريين المحتجزة فى باريس. استند الإعلان الفرنسى عن مسئولية الدولة الفرنسية عن التعذيب فى الجزائر إلى أعمال تاريخية وأبحاث قام بها العديد من المؤرخين والمفكرين المهتمين بهذه الحقبة وكذلك نضال واستقصاءات العديد من الجمعيات الأهلية التى تهتم بضحايا هذه الحرب الاستعمارية التى أفضت وفق المصادر الفرنسية إلى مقتل أربعمائة وخمسين ألفا من الجزائريين وثلاثين ألفا من الفرنسيين. وبصرف النظر عما إذا كان بمقدور أى إعلان أو أى قرار إصلاح ما جرى من عنف وتعذيب وانتهاك لحق الحياة لمئات الآلاف من الجزائريين المناضلين من أجل حريتهم، فإن قيمة هذا الإعلان من قبل رمز الدولة الفرنسية تكمن أولا فى ضرورة النظر إلى تلك الصفحات السوداء من تاريخ فرنسا وإخراجها من حيز الصمت والظلام إلى حيز النور والتخلص من تداعياتها وآثارها بشجاعة وشفافية، كما أنها ثانيا من الممكن أن تكون خطوة فى منعطف متدرج للاعتذار عن الاستعمار وتلبيه مطالب الدولة الجزائرية المشروعة وفتح صفحة جديدة فى العلاقات بين البلدين. ويبقى السؤال عما إذا كان من حق الجزائر أن تقاضى فرنسا بعد هذا الإعلان والمطالبة بتعويضات مادية خاصة أن اتفاقية إيفيان الموقعة بين البلدين تنص على عدم أحقية الجزائر فى مقاضاة فرنسا عما حدث قبل عام 1962. يتوقف الأمر فى نهاية المطاف على مصير هذا الإعلان والجدل حوله سواء كان فى داخل فرنسا أو فى الجزائر واستكشاف آفاق المستقبل. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد