يحكى دكان محمد الصادق، الكائن فى منطقة باب الشعرية وسط القاهرة، تاريخ مصر وما دار فيها من أحداث اجتماعية وسياسية وثقافية كبرى، على مدى أكثر من قرن من الزمان، ما يجعله يستحق عن جدارة لقب «شيخ الوراقين» فى مصر. لا يشبه دكان الصادق غيره من الدكاكين الأخرى، المنتشرة بطول الشارع الكبير الذى يفضى فى نهايته إلى ميدان الأوبرا القديم، والتى تحول كثير منها إلى محال لبيع نفايات التكنولوجيا الصينية، من اكسسوارات الموبايل وغيرها، لكنه ظل محتفظا بصورته القديمة التى ورثها عن أسرة، احترفت منذ سنوات بعيدة مهنة تجارة الكتب، تلك المهنة التى ظلت رائجة فى مصر على مدى عقود، قبل أن توجه إليها شبكة الإنترنت الضربة القاضية خلال العقدين الماضيين، مثلما وجهت للصحافة الورقية، بسبب ما وفرته للباحثين من مواد فى مختلف ألوان المعرفة. يرجع كثير من المؤرخين ظهور دكاكين بيع الكتب فى مصر، إلى بدايات الدولة العباسية، حيث انتشرت من القاهرة إلى مختلف البلدان فى العالم الإسلامى، حتى حفلت كل مدينة بعدد وافر منها، ويقول اليعقوبى إن سوقا عظيمة للوراقين انشئت فى مصر على أيام الطولونيين والإخشيديين، كانت تعرض فيها الكتب للبيع، وأحيانًا تدور فى دكاكينها المناظرات والمحاورات العلمية والفكرية، بل ان المقريزى تعرض فى مواضع كثيرة؛ للحديث عن هذه السوق التى كان يجتمع فيها أهل العلم والأدب والفكر، مشيرا إلى أن الباعة فى تلك السوق لم يكونوا مجرد تجار ينشدون الربح أو المكسب المادى، «وإنما كانوا أدباء ذوى ثقافة واسعة عالية، يسعون للذة العقلية من وراء هذه المعرفة التى كانت تتيح لهم القراءة والاطلاع، وتجذب لمحالهم أهل العلم والأدب». يحفظ محمد صادق تاريخ تلك المهنة التى ورثها عن أسرته عن ظهر قلب، ويعرف ما حفلت به أسماء الوراقين فى ذلك الزمان الغابر، من أسماء لشخصيات لامعة مثل ابن النديم صاحب كتاب «الفهرست»، والشيخ عبد الملك الفشنى، فى خان الخليلى وغيرهم، وهو ينظر بفخر شديد الى التاريخ المدون لعائلته التى احترفت تلك المهنة التى ترقى فى نظره إلى درجة الرسالة، فقد كان الجد يمتلك تكية قديمة لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، بشارع الخليج المصرى «بورسعيد حاليا»، كانت تضم كل ما يتعلق بالورق، من كتب قديمة ووثائق ومخطوطات وصور، ورث محمد بعضا منها، قبل أن تتحول الى سبب فى غوايته، ليجوب البلاد طولا بحثا عن الأوراق والصور والكتب القديمة، ليضيفها إلى تلك الثروة التى لا تقدر بثمن، والتى تضم الى جانب ذلك مئات من أفيشات الأفلام، وآلاف من الصور التى تدون تاريخ السينما فى مصر، عبر نحو مائة عام. فى دكان الصادق يتجلى سحر الورق، ممثلا فى عشرات من المجلات والصحف التى صدرت فى مصر منذ مطلع القرن الفائت، وجميعها على قدمها لا تفتقد جاذبية الصورة، وجدة الفكرة وطرافة الموضوع، بينما صحافتنا المطبوعة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتنتظر رصاصة الرحمة أو قبلة الحياة. لمزيد من مقالات أحمد أبو المعاطى