الفلسفة أم العلوم. كان هذا تعبيرا شائعا يصف الفلسفة فى بداياتها واستمر حتى العصور الوسطى. وقد شاع هذا التعبير لأن الفلاسفة جعلوا هدفهم تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية تفسيراً عقلياً ينأى بنفسه عن اللجوء إلى الأساطير والخرافات. ومع تطور الفكر الإنسانى بدأت العلوم تستقل عن الفلسفة، ويتم الاعتراف باستقلال العلم عندما يتوافر له ثلاثة أركان: موضوع محدد للدراسة، ومنهج واضح المعالم ، ونظريات ذات قدرة تفسيرية عالية للظاهرة وقابلة للتحقق منها. وهكذا صارت مهمة علم الفلك أن يفسر لنا السماء والكيمياء تحدد لنا خواص العناصر ونتيجة امتزاجها، والميكانيكا تدرس قوانين الحركة. وحينما استقلت العلوم حققت تقدما مهما فى المعرفة. وللوقوف على ذلك علينا أن نقارن بين فكرة العناصر كما وردت فى الفلسفة، ونفس الفكرة كما وردت فى الكيمياء. فقد اعتقد الفلاسفة اليونان الأوائل وتبعهم فى ذلك فلاسفة العصور الوسطى من العرب والأوروبيين أن الطبيعة مكونة من أربعة عناصر أساسية بسيطة وهى الماء والهواء والتراب والنار، وكل الكائنات فى العالم، سواء حية أو جامدة مكونة من هذه العناصر بنسب مختلفة. وجاءت الكيمياء الحديثة لكى تبين أن هذه العناصر ليست بسيطة بل مركبة، فالهواء يتكون من عدد كبير من الغازات، وكذلك التراب، بل وبين العالم الروسى مندليف أن عدد العناصر البسيطة فى الطبيعة يزيد على تسعين عنصرا. ولهذا حينما أراد الفيلسوف الإنجليزى برتراند راسل أن يميز بين العلم والفلسفة قال إن العلم يحدثنا عما يعرف، أما الفلسفة فهى تحدثنا عما تجهل. وبالتالى فهى تهتم بالظواهر التى لم يستطع العلم أن يصل فيها بعد إلى إجابة. وهكذا تتعامل الفلسفة مع موضوعاتها من خلال التأملات والتخمينات، وبالتالى لا يمكن أن تكون مصدراً لليقين. أما العلم فهو ينقل الموضوع من مجال التخمين إلى موضوع المعرفة القابلة للتحقق. ولاشك أن مثل هذا التفسير يؤثر على مصداقية الفلسفة ويعتبر حديثها نوعاً من اللغو الذى لا طائل من ورائه ولا مخرج منه إلا حينما يتدخل العلم بمنهجه الدقيق وقوانينه الواثقة. ولكن الفلسفة أرادت أن تدافع عن شرعية وجودها، وعن مكانتها فى الوعى الإنسانى بتحديد موضوع للدراسة يصعب أن يصلح موضوعاً للعلم. فهى تؤكد دائماً فى كل العصور أنها تدرس الحق والخير والجمال. وهى قيم عزيزة على الإنسان وضرورية لاستمرار الحياة المشتركة. وفى نفس الوقت يصعب تصور أن تكون موضوعاً للعلم بمنهجه الرياضى أو منهجه التجريبى. إذ كيف يمكن لعلم من العلوم أن ينتج لنا فى المعمل نظرية تكشف لنا عن ماهية الخير، أو قانونا يحدد معايير الجمال. هذه القيم لا يمكن لها أن تصبح موضوعاً للعلم ولا يمكن لنا الاستغناء عن التفكير فيها نظراً لأهميتها فى الحياة الإنسانية. وهكذا يظل للفلسفة مبرر للوجود. ظلت هذه القيم بالفعل بمنأى عن العلم الحديث، ولكن مع تقدم العلوم بدأت تظهر تخصصات علمية تسعى إلى تفسير الحق والخير والجمال تفسيرا علميا، ومنها العلوم المعرفية وعلم الأعصاب وعلم التعديل الجينى والميكروبيولوجى. هناك برامج بحثية تعتمد على التقاطع بين هذه العلوم من أجل تفسير علمى لتكون القيم البشرية المشتركة ويرى العلماء فى هذا التخصص أن علينا أن نتجاوز الثنائيات القديمة التى ورثناها عن تاريخ الفكر. الثنائية الأولى هى التمييز بين ما هو فطرى والذى تتحكم فيه الجينات وبين ماهو مكتسب والذى يأتى عن طريق التعلم، كذلك ينبغى تجاوز التمييز الذى أقامه جان جاك روسو بين الطبيعة والثقافة. فالتكاثر والنسل فى نظره يعود إلى الطبيعة، مثلنا فى ذلك مثل باقى الحيوانات التى تسعى إلى حفظ النوع. أما الحب والخطوبة والزواج وتأسيس الأسرة فهذا يخص الثقافة. وينبغى أيضا أن نتجاوز التمييز الذى أقامه دافيد هيوم بين العلوم الوصفية التى تدرس ما هو كائن، مثل الفلك والكيمياء والفيزياء، والعلوم المعيارية التى تحدد ما ينبغى أن يكون مثل المنطق والأخلاق. علم الجمال. ويحذرنا العلماء الذين يبحثون عن تفسير علمى للقيم من تصور أنهم يريدون أن يجعلوا الإنسان أسيرا للحتمية البيولوجية حيث تتحكم الجينات فى تحديد مسار حياته ويلغوا دور الثقافة والمجتمع. ويرون بالعكس أن هذا التفسير العلمى الجديد يهتم بالتفاعل بين الفرد والنوع ويدرس تأثير التعلم على الجينات والذاكرة حيث يتطور التركيب الجينى من حيث البنية والوظيفة مع تطور المجتمع. فالخريطة الجينية للإنسان فى تطور مستمر، والاتفاق فكريا على قيم إنسانية مشتركة هى خطوة أولى لتوطينها فى جينات النوع. ومن هذا المنظور لن يتم تهميش الفلسفة بل سيكون لها دور فعال فى تحديد مستقبل أفضل للنوع البشرى. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث