أشار السيد رئيس الجمهورية فى أكثر من خطاب الى أهمية وأولوية ملفات التعليم والصحة واصلاح الجهاز الادارى للدولة خلال فترة الرئاسة الثانية (2018 – 2022) واذا تناولنا أول هذه الملفات وهو ملف التعليم بشقيه قبل الجامعى والجامعى نجد ان هذا الملف يمثل مفتاح التقدم والتنمية لأى دولة فى العالم مع الاعتراف باختلاف الظروف والمتغيرات ومعطيات الواقع والخلفية الثقافية الحضارية لكل دولة على حده. ودون الدخول فى تفاصيل كثيرة حول هذا الملف الشائك ... نتناول فى هذا المقال مرحلة التعليم ماقبل الجامعى .... فإننا نرصد قيام وزارة التربية والتعليم الدخول فى تطبيق نظام تعليمى جديد يبدأ من مرحلة رياض الأطفال والصف الأول الابتدائى مع بداية العام الدراسى 2018/2019، كذلك يبدأ تنفيذ اصلاحات جذرية على نظام الثانوية العامة لطلاب الصف الأول الثانوى للعام الدراسى 2018/2019،
ولقد شاهدنا واستمعنا كثيرا الى افكار ورؤى الدكتور طارق شوقى وزير التعليم بشأن هذه القضية الهامة والتى يمكن أن نطلق عليها قضية مصر الأولى نحو التنمية والتقدم، ومع كل التوفيق لوزير التعليم فى مهمته الثقيلة فإنى احب أن أورد هنا الملاحظات التالية: أولاً: تطوير منظومة التعليم تبدأ بتحديد طبيعة وخصائص مخرجات العملية التعليمية فلابد أن يصل الحوار المجتمعى الى قناعة تامة بمواصفات الطالب الذى أمضى 12 عاماً من التعليم عبر المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية وفى حوار مع أحد كبار المسئولين عن التعليم فى الصين منذ عدة سنوات أكد لى أن الطالب الصينى يصل بعد 12 عاماً من التعليم إلى تمتعه بالمواصفات التالية: •اتقان لغتين أجنبيتين خلاف اللغة الصينية قراءة وكتابة وتحدثا. • اتقان كامل لجميع مهارات استخدام الحاسب الآلى. • احترام وتقديس قيمة العمل . وعندما سألته عن مستوى الطالب الصينى فى الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضة ألمح إلى انه يحصل على معلومات عامة أساسية فى هذه المعارف مع ترك التفاصيل لمرحلة التعليم الجامعى (قارن ذلك بما يحدث فى مصر عبر مراحل التعليم المختلفة)، وعند الاستفسار عن قضية احترام وتقديس قيمة العمل أشار الى أن الطالب يبدأ فى ممارسة العمل فى الصف الأول الإعدادى وبالتالى فلابد أن يتم تصميم المقررات والبرامج بحيث تغرز فى الطالب منذ نعومة أظافره احترام وتقديس قيمة العمل ... الخلاصة لابد من الإتفاق مع جميع أصحاب المصالح للعملية التعليمية على طبيعة ومواصفات خريج مرحلة التعليم ماقبل الجامعى. ثانيا: تطوير منظومة التعليم يستلزم الحصر الشامل لواقع ومعطيات النظام التعليمى الحالى وذلك على مستوى البرامج والأبنية التعليمية والمدرسين وكافة التسهيلات المرتبطة بالعملية التعليمية ... وأظن أن وزارة التعليم قد قامت بهذه الدراسة والتى أسفرت عن مشاكل وأوجه قصور بالغة تعود إلى سنوات عديدة ماضية لم يلق التعليم فيها الإهتمام المناسب واليقظة الملائمة والتمويل المعقول. ثالثا: ونحن نتطلع إلى نظام تعليمى جديد ... لا يمكن اغفال دور المعلم فى تطبيق اجراءات وأساليب هذا النظام ومع الأسف الشديد تعرض المعلم المصرى خلال السنوات الثلاثين الماضية إلى أكبر عملية تجريف معنوى وثقافى واجتماعى واقتصادى، فدخله المشروع لا يفى باحتياجاته ونظرة المجتمع اليه تمتلئ بالكثير من السخرية وعدم الامتنان، كما أن ثقافته ومبادئه ومعتقداته قد أصابها الكثير من الوهن وراحت ضحية أمراض سلفية دينية مقيتة... المعلم وهذه هى أوضاعه ... كيف له أن يشارك فى بناء وتنفيذ منظومة التعليم الجديدة ... هنا الأمر يستوجب التعامل مع عدد من المعلمين يتم اختيارهم وفقاً لأسس تربوية واجتماعية وثقافية معينة ويتم تدريبهم لإكسابهم مهارات التعامل مع الطلاب والأخرين وكذلك مهارات مرتبطة بالعملية التعليمية وذلك فى اطار مبادرة فكرية ثقافية شاملة تعلى من شأن المعلم وترد له الهيبة والإحترام والإعتبار مع الأخذ فى الإعتبار بكل تأكيد بضرورة توفير المقابل المادى المناسب لهذه المجموعة المختارة حتى تتحول هذه المجموعة إلى وكلاء حقيقيين للتغيير بحيث تنتقل عدوى التطوير والتحديث سنة بعد الأخرى إلى مختلف أعداد المعلمين الأخرين مع شجاعة الإعتراف بأن هناك من يرفض التطوير أولاً يقدر عليه وهنا لابد له أن يتم الاستفادة منه فى عمل أخر بعيداً عن العملية التعليمية. رابعاً: نأتى إلى الأبنية التعليمية والتجهيزات والتسهيلات الدراسية والتى تعانى كما نعلم من نقص شديد فى الإمكانيات وضعف فى الصيانة وذلك على الرغم من المبالغ الضخمة التى تم انفاقها فى سبيل بناء فصول جديدة أو تجهيز ماهو قائم واستكمال البنية التحتية لشبكات المعلومات ... وهنا نحن فى حاجة ماسة الى التفكير بأسلوب غير تقليدى ... نعم نحن نحتاج إلى المدرسة وهى لا غنى عنها لإتمام مقومات العملية التعليمية ولكن أى مدرسة وبأى مواصفات ... لقد حدث قصوراً كبير فى مفاهيم انشاءات المدارس فى السنوات العشر الأخيرة والعبرة ليس بالمبنى أو المساحة ولكن بكفاءة الاستخدام وحسن استغلال الفراغات وهنا يمكن التفكير فى إعادة تصميم عدد من مراكز الشباب المنتشرة فى ربوع مصر وتحويلها إلى فصول جديدة مع إعادة تأهيل عدد من الفصول القديمة بحيث نحقق الإمكانيات الواجبة للقيام بمتطلبات العملية التعليمية فى وقت زمنى قياسى. خامساً: المعلم مستعد ومدرب ومتحمس ولديه الرغبة فى التغيير والتطوير ... والمبنى المدرسى مهيئا لذلك ... ولكن فاقد الشئ لا يعطيه ... فأين المنهج أو المقرر أو البرنامج وما هى فلسفته وأطره ومقوماته ... تبقى قضية البرامج والمقررات هى الأكثر القضايا سخونة وأهتماماً ... وهنا أرجو أن نتوقف تماماً عن مقولة أنه من الأسهل أن نقتبس البرنامج اليابانى أو الأمريكى أو الكورى أو الألمانى ونقرره على الطلاب ... فالعملية التعليمية هى فى حقيقتها ليست معمل تجارب لإختبار تجارب الأخرين ولكنها عملية تربوية اجتماعية اقتصادية جماهيرية شاملة ولا يمكن فصلها عن مقومات المنظومة الثقافية والحضارية للمجتمع .. وهنا أتعجب عندما يقال أننا اشترينا مناهج التعليم الأساسى فى الرياضة والعلوم من أمريكا أو اشترينا برامج تعليم أخرى من ماليزيا أو اليابان أو أى دولة اخرى ... نظام التعليم فى أى مكان بالعالم له خصوصية البلد الذى يطبق فيه مع الالتزام بالطبع والمبادئ التربوية التعليمية العامة ... لذلك فالدعوة يجب أن توجه لإعداد برامج ومقررات مميزة تتناسب مع أهداف ومتطلبات ومخرجات النظام التعليمى ولا بأس إطلاقاً من الاستعانة بأفكار ورؤى تأتى من نظم تعليم أجنبيه بشرط إعادة صياغتها وهيكلتها وتبويبها بما يتلاءم مع سياسات التعليم التى نرجو الى تطبيقها. سادساً: نجاح تطوير منظومة التعليم قبل الجامعة ليست مسئولية وزارة التربية والتعليم فقط بل هى مسئولية دولة بالكامل ومسئولية حكومة ومسئولية فريق عمل يشترك فيه وزارء التعليم والتعليم العالى والثقافة والإدارة التعليمية والمالية والإعلام وغيرها من الوزارات ... فقضية التعليم قضية مجتمعية متشابكة الأطراف ومن عدم الحكمة أن تختزل فى صورة مناهج ومعلمين ومبانى ... هى قضية مجتمع وهوية ... مجتمع يبحث عن إعادة صياغة مفرداته وشخصية أبنائه ... هى قضية دولة تحارب الإرهاب فى كل الجبهات بمختلف الوسائل ويأتى التعليم على رأس هذه الوسائل لاستئصال الجذور الفكرية والعقائدية لهذا الإرهاب الأسود. ويبقى ملف التعليم قبل الجامعى حائراً بين الواقع والتمنى ... واقع أراه أحياناً مستسلما للممارسات الحالية الضارة غير المنطقية التى وصلت بنا إلى أدنى درجات السلم فى الترتيب العالمى وتمن يتحسس الخطى نحو تطوير المنظومة التعليمية دون وجود مقومات واضحة لذلك على الأقل لدى أطراف العملية التعليمية ويبقى الممكن كدائرة وسط الواقع والتمنى ... ومن الممكن أن نضع منظومة تعليم جديدة تحقق كل أحلام وآمال شعبنا المصرى الذى مازال يؤمن بأن التعليم هو قضية مصر الأولى ... يمكن أن نتكاتف سوياً من أجل إعداد هذه المنظومة فى إطار من التفكير المنطقى والجهد المنتظم والرؤية الواضحة والثقة فى إمكانيات أولادنا وبناتنا وذلك من اجل مستقبل أكثر اشراقاً وأملاً.