لا يكفى بحال من الأحوال للقضاء على مشكلة الاعتداء على الاقباط وطردهم من منازلهم وقراهم لمنعهم من الصلاة، مجرد التحقيق فى الجريمة فحسب ومحاكمة مرتكبيها بل يتعين كما يقضى المنطق السليم الرجوع الى كل المعطيات والاسباب التى ادت الى الوصول لهذة النتيجة. ومن العبث محاولة القضاء على المشكلة قضاءً جذريا دون التقصى عن المعطيات التى تسببت فى وجودها. وهناك ثمة حقائق يتعين عدم استمرار التغافل عنها. أما الحقيقة الاولى هى ماتم منذ اوائل السبعينيات من القرن الأخير من إقناع جمهور الشعب المصرى بأن مصر ليست سوى دولة إسلامية يحكمها رئيس مؤمن وان المسيحيين ماهم الا دخلاء عليها .وقد نجم عن ذلك الاعتداء على الاقباط فى القرى كما شهدنا بالنسبة لمذبحة الخانكة عام 1972 وما تلاها من عدوان على الاقباط وتخريب لمنازلهم مع اصرار الدولة على ان كل ذلك ماهو الا خلافات شخصية. وقد تزايد بث الكراهية فى نفوس الجمهور ضد الاقباط منذ ذلك الحين فى الخطاب الدينى على المنابر والزوايا وكذلك وسائل الاعلام وبرامج التعليم بل وفى اماكن عامة حيث صار التمييز فى التعامل مع المواطنين أمرا طبيعيا، والواقع أن نهج الحد من بناء الكنائس الذى دأبت عليه الدولة هو نفس نهج اقصاء المسيحيين عن بعض المناصب الحيوية كمنصب المحافظين ورؤساء الجامعات الى غير ذلك حتى بدأ الاصلاح فى الأونة الاخيرة. وللقضاء على هذا السبب المهم للمأساة الحالية يتعين القيام بتصحيح مارسب فى اذهان الجمهور المسلم من افتراءات وتحريض ضد المسيحيين و بث الاحساس الفعلى بأولوية الانتماء للوطن على اى انتماء آخر كما سبق أن نوهت ثورة مصر المجيدة عام 1919 بأن «الدين لله والوطن للجميع» .ولامجال للتشدق بمبدأ عدم التمييز بين كل المواطنين الوارد بالدستور المصرى طالما كان ذلك غير مشفوع بتطبيق فعلى صادق وقيام مؤسسات الدولة بإعطاء الصورة المثلى له. ويجدر فى هذا المقام السعى للكشف عن طريق لجنة قومية عليا لمراقبة أى خرق لمبدأ المساواة الكاملة بين أبناء مصر فى كل المجالات من دينية ورسمية ومدنية قبل ان يصير هذا الخرق بمثابة اسلوب طبيعى مع تقرير عقوبة رادعة لاى مخالفة لهذا المبدأ. اما الحقيقة الثانية التى ادت دون شك لمواصلة الاعتداءات على المسيحيين فتتمثل فى تقاعس الدولة عن تقديم مرتكبى هذه الجرائم للقضاء وانشاء مجالس عرفيةتقوم مقام القضاء للفصل فيها وتنتهى هذه المجالس عادة بإدانة الضحية بدلا من مرتكبى الفعل ويحضرنى فى هذا المقام ما شاهدته اثناء تشرفى برئاسة لجنة تقصى حقائق 30 يونيو من قرارات جائرة لمجالس عرفية فى قرى صعيد مصر بل وعلى مشارف القاهرة. ومن أمثلة ذلك قيام مجالس عرفية بتبرئة من قام بحرق منازل اسرة قبطية وذلك بسبب اتهام خطيب المسجد لاحد افرادها بمصاحبة فتاة مسلمة وأدان المجلس الشاب المسيحى الذى لم يرتكب أى جريمة فى نظر القانون وإلزامه تعويض اسرة الفتاة بمائة ناقة فضلا عن طرد الاسرة القبطية من القرية. وقد حرصت الدولة على عدم تقديم هذه الجرائم للقضاء خشية صدور احكام من شأنها إغضاب وثورة اهالى القرى وتهديدهم للامن العام. ومن الجلى ان هذا التغاضى عن تقديم مرتكبى هذه الجرائم للقضاء على مدى عقود عديدة قد أسهم الى حد كبير فى مواصلة الواقعين تحت تأثير التعاليم الدينية المضللة ارتكاب هذه الجرائم خاصة ان مرتكبى هذه الجرائم هم الذين يفوزون فى نهاية الامر بالمكاسب المادية. أما الحقيقة الثالثة: فهى سلبية المجتمع المدنى ومثقفيه وعدم احتجاجهم ورفضهم البات لإهدار الحقوق المشروعة والتنكيل بشريحة هى أصل من أصول هذا الوطن. ومن الثابت أن اى إصلاح حقيقى ينبع أساسا من موقف المجتمع المدنى وايمانه به. ولا شك أن الدور الرئيسى فى هذا المجال يقع على عاتق كل المثقفين الذين لا يمثلون حتى الآن جبهة واحدة كما أنهم يقتصرون فى غالب الأحيان على مخاطبة بعضهم لبعض، كما أنهم ليسوا متمكنين بعد من التواصل الفكرى مع عامة الشعب. اما الحقيقة الرابعة: فهى استخفاف مصر حكومة وشعبا بالرأى العام العالمى وبقرارات المجتمع الدولى الرسمية كالمجلس الدولى لحقوق الانسان التى تدين بشدة اهدار مصر لحقوق الاقلية المسيحية وكذا لحقوق المرأة، وكأن مصر تعيش فى كوكب آخر ولاشأن لها بالنظام الذى يحكم كوكب الارض غير مدركة أن العالم اصبح اشبه بقرية واحدة كما يجرى القول وبالتالى فان الجرائم المرتكبة فى اى مكان فى العالم لن تخفى على كل شعوب العالم. ولن تكف المؤسسات الدولية عن ادانة مصر طالما استمرت ارتكاب هذه الجرائم, ومن المعلوم ان اضطهاد الاقليات كان من ذرائع الغزو البريطانى لمصر عام 1882 واحتلالها وذلك بعد ماوقع بالاسكندرية من مذبحة. ان مأساة المنيا وما سبقها خلال نصف القرن الماضى يشكل نواة لمخاطر تهدد كيان الدولة فضلا عن تمزيق الشعب، وليس من الصواب تكرار اسلوب التهدئة المؤقتة المتسترة بتقبيل الذقون مع إفلات مرتكبى الفعل وترك المشكلة الحقيقية دون حل كى تتفاقم وتفلت من الزمام. ولعل الوعى بخطورة النتائج المترتبة على مشكلة يحث اولى الأمر على التصدى الحاسم لكل الاسباب والعوامل التى أدت إلى حدوثها وعدم التراجع أمام أى معارضة حتى ولو شكلت تهديدا على الأمن العام، فالأزمة التى نحن بصددها هى قضية مصيرية يجب أن تحظى بأولوية المواجهة والحل. لمزيد من مقالات د. فؤاد عبد المنعم رياض