حول مائدة مستديرة, اصطف ثلاثون من العلماء والخبراء, ممن كان لهم اتصال عملي ووظيفي بالمشروع القومي لتنمية سيناء, لم يقدموا طرحا نظريا حول ما ينبغي أن يكون, لكنهم عرضوا بالمعلومات, ما كانوا يديرونه من مشاريع التنمية في سيناء لمدة عامين, من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي الإنتاجي, وصيانة الأمن القومي لمصر. كان هذا اللقاء الأول عام 2008, في سلسلة ندوات عقدت عامي 2009,2008 بمقر مركز الدراسات المستقبلية التابع لمركز المعلومات بمجلس الوزراء, الذي كان يديره أستاذ العلوم السياسية الدكتور محمد إبراهيم منصور, في فترة انطلق فيها ببرنامج المركز إلي آفاق مهمة وغير تقليدية. وبعد الندوة الأولي جاءت ثلاث ندوات, أتبعها بمؤتمر عقد في مدينة العريش لمدة ثلاثة أيام, جري فيه استكمال المعلومات المتعلقة بتنمية سيناء, وارتباطها الوثيق بأمن مصر القومي. والمشروع القومي لتنمية سيناء, اعتمده مجلس الوزراء رسميا عام 1994, وأنفقت الدولة13 مليارا من الجنيهات علي البنية التحتية, وتجهيزات بدء تنفيذ المشروع, إلي أن صدرت التعليمات الرئاسية بإلغائه نهائيا!. وهذه سابقة لابد أن تدعونا للتنبه, بعد العملية الإجرامية في رفح, إلي الكف عن عادة إثارة الدنيا ضجيجا حول مشروعات كبري, ثم سرعان ما يخمد الضجيج, وتتجمد الخطي, وكأن شيئا لم يكن. فليس هكذا تدار سياسات الدول, أو تراعي مصالح الأمم والشعوب. إن الدول التي تقدمت من حولنا, نجحت لأنها أقامت خططها ومشروعاتها, بناء علي فكر استراتيجي, ليس فقط من حيث تنفيذ مشروعات تنهض بالدولة, أو مواجهة تحديات ظاهرة أمامها في حينه, بل ببصيرة استراتيجية, تستشرف الأفق المستقبلي الممتد إلي بعيد, وتضع في حساباتها احتمالات ظهور احتياجات مستجدة للدولة, أو أخطار ليست ظاهرة للآن, لكنها تجهز لها السياسات التي تتعامل معها, لو أنها حدثت. إن سيناء هي الحصن الشرقي لمصر, وأي إبقاء علي الفراغ التنموي والعمراني والبشري بها كان لابد أن يوفر بيئة مناسبة لتمدد الجماعات الخارجة علي الدولة, ثم إن البيئة التي تتضاءل أو تنعدم فيها الفرص, تكون حاضنة لتوالد الأفكار المتطرفة والخطيرة, التي تنغلق فيها عقول أصحابها علي ذواتهم, وهذا الفراغ الاقتصادي والأمني الفسيح يتحول إلي مناطق أشبه بكهوف مظلمة, يتكاثر فيها الإرهاب والكراهية للآخرين خارج الكهف, وهو ما شهدناه من تزايد ملحوظ لنشاطات جماعات تكفيرية, لا تؤمن أصلا بفكرة الوطن, وبعضهم جاءوا من منظمات فلسطينية شديدة التطرف, بل إنهم قد يكونون خارجين أيضا علي قبيلتهم التي ينسلخون عنها, ويلتصقون بمن يجمعهم علي التنظيم المغلق عليهم, وكأن هؤلاء معا هم قبيلة في حد ذاتها, لكن بمواصفات تختلف عن المواصفات القبلية التقليدية والطبيعية. وكان متحدثون قريبون من الجماعات الإسلامية, وكذلك المتحدث باسم حزب النور, قد وصفوا الذين دبروا جريمة رفح بأنهم أعضاء في تنظيمات تكفيرية مرتبطة بعناصر خارجية. ومن المعروف بناء علي دراسات دولية اعتمدت علي مصادر موثوق بها أن مثل هذه المنظمات تكون دائما هدفا للاختراق من أجهزة المخابرات الأجنبية, باعتبارها الحلقة الأضعف في أي تجمع سكاني في الوطن, ولما تحمله من عداء لفكرة الوطن والانتماء إليه, وهشاشة قدراتها العقلية في استيعابها حقائق الدين والدنيا. إن سيناء بكاملها تقع علي خط التماس مع الخطر الخارجي, وهي منطقة رخوة استراتيجيا, ولهذا فإن المشروع القومي لا يعد فقط الطريق لحل كثير من مشكلات مصر الاقتصادية والسكانية, لكنه أيضا الطريق الأمثل لجعل سيناء عصية علي الاختراق الخارجي, أو المتطرف. لقد ظهر من خلال المناقشات في الندوات التي عقدت عامي 2009,2008 الحجم الهائل للثروات الطبيعية التي تزخر بها سيناء, من احتياطيات اقتصادية مؤكدة, صالحة لاستغلالها تجاريا, مثل الجبس والحجر الجيري والطفلة والفحم والرمال البيضاء والرمل الزجاجي والمنجنيز والرخام والغاز الطبيعي. هذا بخلاف إمكانات التنمية الزراعية علي امتداد مساحات لا تزال خالية من العمران, فمساحة سيناء هي 61 ألف كيلو متر مربع, ويسكنها 360 ألف مواطن فقط, في حين كان من أهداف المشروع القومي, الذي قتل في مهده, توطين أربعة ملايين مصري في سيناء, وأيضا توفير الوظائف والإسكان والاستقرار الأسري لملايين الشباب الذين لا يجدون عملا. بالإضافة إلي شغل المناطق الحدودية بوجود سكاني كثيف, وبتوطين البدو الذين ستتاح لهم ظروف التكامل السكاني مع القادمين من الوادي. ويكمل ذلك كله بحوث ودراسات كان قد أعدها علماء متخصصون في اقتصاديات تنمية وتعمير الصحراء, وبعضها قام به معهد الصحراء في القاهرة. ولقد سبق أن أجريت بحوث عديدة لاستثمار ثروات سيناء, لكن النظام السابق تجاهلها, وهو ما يدعو الآن لإخراجها من الأدراج, وكلها شهدت مشاريع لاستغلال موارد سيناء صناعيا وزراعيا وتعدينيا, وكذلك تنمية الثروتين الحيوانية والسمكية. ولا ينفصل عن ذلك استثمار طبيعة البيئة السيناوية, بتشجيع المشروعات الصغيرة والصناعات اليدوية والتراثية وتطويرها بشكل علمي, وإقامة منافذ لتصديرها, فهذا مجال تهتم به كثير من الدول الآن, وتملك منتجات لها جاذبية تسويقية, وهو ما برعت فيه الصين علي وجه الخصوص. ... إن تنمية سيناء, وفقا للمشروع القومي الذي كان متكامل الأركان, ينبغي أن تحتل قمة اهتمامات الدولة وبرامجها, فهي قضية استراتيجية, ومسألة أمن قومي في المقام الأول. المزيد من مقالات عاطف الغمري