قبسات من الوعى، إشراقات ذهنية، توهج معرفى، صرامة منهجية، رؤية تقدمية، ترانيم لغوية، تجليات نظرية، حمية على العقلانية، إعراض مطلق عن الذاتية... إنها رحلة العشق والمكاشفة للحقيقة فى شتى أغوارها، هكذا كان الدكتور زكى نجيب محمود طيلة مسيرته التاريخية فى معترك الثقافة والفكر ريادة وتفوقا وإخلاصا وقلقا نبيلا وإلحاحا على جذور القضايا، ليستخرج مكنوناتها ويقف على لبابها تحليلا وتفسيرا واستقصاء، استمساكا بروح المعنى ومضمونه... رجل مشغوف بالمصداقية غائر فى ثنايا وشعاب التاريخ الإنسانى، يجتاحه التوتر على المستقبل الفكرى لأمته غاص الماضى وعرك الحاضر باحثا عن معادلة السمو الحضارى، محزون على اللحظات المتهاوية فى تاريخ أمتنا باحثا عن آليات إقالتها من عثراتها الحادة ومآزقها التاريخية متكئا على دعائم التحديث والتجديد أملا فى بلوغ النهضة القائدة بالضرورة نحو المعايشة الحضارية التى هى ميثاق الانطلاق والتفرد. ولعل حياتنا الثقافية المعاصرة لم تبرأ وإلى الآن من آفات العقل المترنح بين الرفض والقطع التام وبين القبول والإذعان والخضوع لفكرة أو رأى أو رؤية أو نظرية أو موقف، كذلك لم تبرأ من القطيعة بين «نعم» و«لا»، فإما هذه أو تلك، من ثم فقد أصبحت الحوارية بينهما هى لغة الصمت حين أصبح كل فريق يناصر ذاته ويسعى هدما للآخر، وتلك هى أبرز المعطيات المؤرقة والفاعلة فى تعويق صحوة العقل الجمعى. ذلك العقل الذى دأب الدكتور زكى نجيب محمود على تحريكه وتحريره وتفكيك علائقه ليكون راهبا فى آفاق وأغوار تلك الإشكالية الحضارية التى زعزعزت الكينونة العربية حين استشعرت الفجوة السحيقة بين شرق ساكن وغرب متحرك وهو ما انبثق عنه ذلك السؤال المفزع الباعث على الاستثارة الثقافية والتاريخية لأنه يحمل قصة قرون طوال من الانسحاب والتراجع، إذ كيف يلد ماض مجيد حاضرا عقيما؟ وهو ما انبنت عليه دعواته اليائسة من حتمية الأخذ بطابع التفكير العلمى إلى ضرورة وأهمية الانتماء المعرفى للعصر والحرص على الاتساق والتواصل التاريخى للأطوار الزمنية للكتلة العربية الإسلامية ومجانبة الازدواجيات ونبذ الأحكام القائمة على الشعور والانفلات من أسر الفكر الأحادى وإحياء نوازع الغيرة الحضارية تجاه من يصبون طاقاتهم الذهنية على الأشياء، لا على الأقوال، أو أؤلئك الذين يعنيهم العلم ويتهالكون فى سبيله ويعتبرونه مفتاح الحياة وليس أولئك الذين أهدروا قيمته واستباحوا سلطته!! وليست قضية تجديد الفكر الدينى التى يتوعك فيها المثقف المعاصر والتى امتحنت خلالها الطاقات الفكرية، لم تكن من المعضلات الشائكة بحال، فقد خرج علينا زكى نجيب محمود منذ ما يزيد على ثلاثة عقود بطوفان من الأفكار التنويرية الرائدة وفض الاشتباك بين أبعادها، وأسس للفواصل المفاهيمية، طارحا خريطة معرفية تستمد قوتها من دعائم الفكر الناقد وطبيعة الجوهر النورانى للإسلام.. وتلك كانت من أهم وأخطر إشعاعات الفكر الفلسفى قى إطلالته على مفردات الواقع العربى، إلى غير ذلك من القضايا المحورية التى فندها واستأسد لها فى حومة النضال الثقافى. لكن يبقى سؤال الأسئلة وهو: هل تغيرت آلية الفكر العربى واستطاعت أن تقيم حوارية ممتدة مع الآخر أو تحقق دافعية التواجه مع شبح استئصال الهوية؟ لمزيد من مقالات ◀ د.محمد حسين أبو العلا