ما أكثر العلماء الذين يدأبون خوضا فى معترك البحث العلمى متطلعين نحو تقديم نظرية أو اكتشاف أو فكرة، لكن ما أقل أؤلئك العلماء الذين يتحولون لظاهرة نقدية مستنيرة حية فاعلة تتفهم حركة التاريخ فى معانيها ودلالاتها وتصب كل اهتماماتها فى محاولة نحو إعادة صياغة الواقع وبلورة مفرداته ليمثل جزءا حيويا من نسيج الواقع الانسانى، ذلك حتى لا يظل واقعا مترديا رجعيا يحال بينه وبين معاني التقدم والانطلاق والاسهام الحضارى. وما أكثر المجتمعات التى تعانى آفات التخلف ورزائل الجهل الفاضح على صعيد طرائق التفكير وتأخر حركة العلم فيها حتى يصير المشكل الفعلى هو البحث عن العالم الموهوب والمفكر الفذ أو الكاتب الملهم أو الأديب المبدع ذلك الذى يخترق الظلمات سعيا نحو التماس الحقائق فى أسمى تجلياتها. ولم يكن د.أحمد زويل إلا واحدا من هؤلاء المنتمين لجبهة العلماء الموسوعيين المقتحمين للحقل المعرفى فى شتى آفاقه ومناحيه. والمتأمل فى أبرز وأشهر مقولات وأفكار د.زويل يجد ان الرجل يمثل فى ذاته قيمة فكرية ثرية بمعطيات العصر ومتغيراته، قيمة واعية بايقاع اللحظة الحضارية، طامحة إلى توجيه جهودنا الخلاقة نحو استراتيجية التطور الانسانى فى اطار ما كان يتردد على ألسنة المثقفين والعلماء حول كيفية دخول القرن الحادى والعشرين وكيفية الاستعداد له والدخول فيه بثقة دافعة نحو التواجه مع الآخر وتأكيد الذات العربية بكل ما تحمله من عمق تاريخى له مغزاه نجد زويل آنذاك يؤكد بحس العالم والناقد لمتغيرات المنظومة الكونية والمحيط بأسرار وظروف التقدم العلمى ان القرن قد بدأ منذ سنوات.. وقد دخله الغرب بكامل طاقته وعظيم قدراته ليشكل معالمه، من ثم يغير خريطته فى الوقت الذى نظل فيه نحلم ونحلم بما سيكون عليه وجه القرن من انطلاقة تكنولوجية واستراتيجية معلوماتية وتقنية غير مسبوقة تحقق كل ما فات من المطامح الانسانية حتى ينتهى عمر هذا القرن، ونبدأ التفكير فى القرن الثانى والعشرين بأفكار قرن قد مضى!! ولعله لم يكن غريبا أن يكون اكتشاف زويل لتلك الوحدة الزمنية المسماة بالفيمتو ثانية والتى ارتادت به آفاق جائزة نوبل- منبثقا من إشعاعات أو تجربة قد جرت فى مصر منذ فجر التاريخ لتحديد عمر الزمن لتكون بذلك أو حضارة فى العالم تخرج من التقويم القمرى الى التقويم الشمسى. وانطلاقا من ذلك الحس الزمنى والرؤية التقدمية لدى زويل فكم كان قلقا على المستقبل المعرفى والمعلوماتى حين كان يطرح بعضا من الحقائق المفزعة على غرار أن الأمة العربية التى يتجاوز تعدادها - آنذاك - نحو مائتين مليون لا يتجاوز توزيع أهم الكتب فيها عن خمسة آلاف نسخة، وكذلك فان انتاج العالم من المعلومات منذ بدايات هذا القرن كان يعادل حجم ما هو موجود بمكتبة الكونجرس نصف مليون مرة وأن هناك نحو ثمانين مليون معلومة سنويا تبث لكل شخص عبر جميع قنوات الاتصال وأن ما يترجم الى اللغات الأوروبية من الفكر العربى لا يمثل نسبة تذكر على الاطلاق وأنه حتى نهايات القرن العشرين كانت المكالمات التليفونية تنقل صفحة واحدة من المعلومات كل ثانية والآن تغطى شريحة الألياف نحو مائة وتسعين ألف مجلد فى الثانية، إلى غير ذلك من تحذيراته وتخوفاته واسهاماته فى اتجاه يقظة الوعى واستنهاض المصريين وشحذ خلايا الشغف المعرفى المحقق للطموح التاريخى لمصر. ان جائزة نوبل التى توجت تاريخ زويل العلمى والفكرى قد سبقتها تقديرات وجوائز وأوسمة ونياشين منها حصوله على أرفع وسام أمريكى فى العلوم ذلك الذى لم يحصل عليه من قبل إلا أعظم علماء القرن الماضى وعلى رأسهم ألبرت أينشتين، مارى كورى تسجيلا لإصابة علمية أو فكرية لمصر فى المحيط الدولى. وكذلك فإن د.زويل الذى احتضنته أمريكا علميا هو مصرى صميم يفخر ويعتز بمصريته كل الاعتزاز فلا أقل أن تبادله مصر إحتراما وتقديرا بترجمة مزيد من الاهتمام والاحتفاء بكوكبة علماءنا المنتشرين فى جميع أقطار الكرة الأرضية فما أحوجنا هذه الأيام إلى وقفة جديدة من علمائنا على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم للخروج بمصر من إسار أزماتها ومشكلاتها وسط التوجسات والصراعات المعاصرة. لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبو العلا