سؤال الهوية يحتل الآن مساحة كبيرة في المشهد الفكري الإنساني المعاصر، ويشغل الناس في جميع الثقافات. ولكنه سؤال ليس سهل الإجابة، ولكن الاهتمام به يعد مؤشرا علي حالة من القلق تنتاب الجميع؛ قلق في بعض بقاع الأرض من زيادة هيمنة القوي الكبري وتغلغلها علي المستوي الثقافي والسياسي والاقتصادي، وقلق في بعضها الآخر من تدفقات الهجرة التي تأتي ببشر مختلفين في عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم. ورغم اختلاف الموقفين فإن الجميع يتفق علي أمر يعتبرونه بديهيا وهو ربط الهوية بالتراث. وفي هذا النزوع مفارقة كبري، فالمفروض أن الهوية تعني الإجابة عن سؤال من هو؟، أي إدراك الصفات والخصائص التي تسمح لنا بتمييز شيءأو شخص عن الآخرين. فهويتي هي قدرتي علي أن أقول من أنا؟ ولكي تكون الإجابة سديدة ينبغي أن يكون الحاضر هو الذي يحدد الهوية، في حين أن الاتجاه السائد يميل إلي أن يجعل الماضي هو الذي يحدد الحاضر. الواقع أن ماضي الجماعات البشرية ممتد ومملوء بالتغيرات التي تطول اللغات والمعتقدات وأنماط الانتاج ومظاهر التعبير الفكري والأدبي والفني، ومن الصعب أن نقتطع منه فترة ونعتبرها هي التراث الذي يحدد الهوية. ومن الصعب كذلك أن نعتبر أن كل هذا الماضي بتغيراته المتباعدة يشكل تراثا متجانسا يحدد بالضبط الهوية. أغلبية العناصر التي تحدد سمات أي جماعة بشرية في الزمن الحاضر لا علاقة لها بماضيها، والمستقبل مفتوح علي آفاق لا حصر لها. إن ربط الهوية بالماضي قائم علي فكرة أن الإنسان يجب أن يكون له جذور. وهذه صورة مجازية، يتم اللجوء إليها لأننا لا نعرف بالضبط ما هو التراث. فالمجاز يعطي شكلا مرئيا لمفهوم مجرد، ولهذا يتسم دائما بأنه عميق التأثير، ولكنه لا يعكس الواقع. هذه الصورة المجازية ليست مجرد مثال لتوضيح الفكرة، ولكنها موجه للنظر في الأمور ومحدد لطريقة التفكير. ولقد كان خضوعنا لهذا التصور مصدرا للكثير من صور الاضطراب الفكري في ثقافتنا العربية المعاصرة. فمثلا تهمة التبعية للفكر الغربي واعتبار ذلك مهددا لهويتنا الموروثة من الماضي. وهي تهمة غامضة، لأنه لا يمكن لأحد أن يكون تابعا للفكر الغربي بوجه عام، فلو تأثر إنسان بآراء الفلاسفة الداعين إلي الفكر المادي استنادا إلي نظريات العلوم الحديثة فإن عليه أن يكون لنفسه منظور نقدي يعارض به الفكر المثالي الغربي. ولو رأي آخر أن الليبرالية الغربية مذهب صالح لتنظيم الحياة الاقتصادية والسياسية للمجتمع، فإنه سوف يصبح بالضرورة معارضا للفكر الاشتراكي وللمفكرين الغربيين الداعين له وليس تابعا لهم. وبالتالي يصعب اتهام أحد بأنه تابع للفكر الغربي في عمومه لأنه مملوء بالمذاهب المتناقضة. الذين يميلون في ثقافتنا إلي ربط الهوية بالماضي يعتبرون أن الفرد سواء كان ماديا أو مثاليا، ليبراليا أو اشتراكيا، ولو كان في الفن تعبيريا أو سيرياليا، هو في كل الأحوال تابع للفكر الغربي لأنه يستقي اختياراته من ثقافة أخري غير ثقافته. وهذه رؤية انغلاقية تعد مصدرا لكثير من الشرور التي تصاب بها مجتمعاتنا الآن، فأصحاب هذه الرؤية يخطئون في أكثر من وجه. فهم أولا يقفون ضد حرية كل إنسان في أن يختار أي مذهب فكري يتبناه وأي موسيقي يفضل الاستماع إليها دون وصاية من أحد. وثانيا لا يكلفون أنفسهم عناء النظر إلي الأمم الأخري من حولنا حيث نلمس فيها تأثير هذه التيارات الفكرية والفنية المعاصرة والتي تشكل عاملا من عوامل ثرائها الثقافي دونما قلق لديهم علي ضياع هويتهم. وفي ظل هذا الهوس المنتشر بالهوية يميل الأفراد وخصوصا الشباب إلي التجانس بالزي والمأكل وصور الترفيه حتي أصبحنا لا نستطيع التمييز بين عاصمة وأخري في أي بلد من بلاد العالم، فنحن نرصد دائما تشابه أنماط السلوك والمظهر. لا يعني كل هذا أن العالم خال من الصراعات. العالم بالفعل مملوء بقوي تنزع إلي التسلط والهيمنة وتنتج من الأفكار ما يساعدها علي ذلك، وقوي أخري تسعي إلي المقاومة، ولكن كل هذا لا يبرر ربط الهوية بالماضي. فنقد الأفكار الشائعة جزء لا غني عنه لكل مقاومة. وهذا النقد ليس بالضرورة منبعه التراث. الانشغال بالهوية وربطها بالتراث هو في النهاية خوف من حدوث تغيرات ثقافية أو اجتماعية، وبالتالي هو نزوع رجعي لأنه يسعي إلي إبقاء الحال علي ما هو عليه. الهوية عندنا يحددها الحاضر وليس الماضي، ولو أخذنا برأي الفيلسوف جان بول سارتر لقلنا إن الهوية يحددها المستقبل. فالإنسان مشروع لا يصل أبدا إلي الاكتمال ولديه طموحات يسعي إلي تحقيقها وتصوره عن نفسه في المستقبل هو الذي يحدد هويته. ولهذا فإننا سوف نكسب كثيرا حينما نفك هذا الاشتباك بين ماضينا وهويتنا. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث