«الآلهة/ الإنسان- الخير/ الشر- الخصب/ الجفاف- النور/ الظلام- العلم/الجهل الخ».. ثنائيات متضادة فى الكون شغلت الإنسان فى مسيرة تاريخ الفكر البشري. فعلى مر العصور تجلت فكرة إيقاع الكون المبنى على الثنائيات الضدية فى نواحى الحياة المختلفة العلمية والفكرية والنقدية والأدبية ،واحتفت به الفلسفات القديمة كالفلسفة الصينية وفلاسفة العرب. فكانت ثنائية الجاحظ فى كتابه«المحاسن والأضداد» من أوائل الأمثلة على اجتماع الشيء ونقيضه فى فكره واعتبارهما قانون الحياة الجوهري.وظهرت ثنائية المدينة الفاضلة ونقيضها لدى الفارابي، وثنائية النفس والجسد لدى ابن سينا وثنائية العقل والنقل لدى ابن رشد. وفى عصرنا الحديث ظهرت بعض المدارس النقدية التى تبنت فكرة التضاد كالمدرسة البنيوية، والمدرسة التفكيكية. كما لعبت نفس الفكرة دورا مهما فى فى العلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية، وعلم الطاقة. ويعتقد البعض أن كل طرف فى هذه الأضداد يبحث عن طرفه الآخر؛ ليتحدا معاً مكوّنين الوحدة الأصلية أو لتوليد وحدة جديدة مختلفة، بينما يرى آخرون أن هذه الأضداد تقوم على صراع أبدى بعضها مع بعض وأن هذا الصراع مصدر لاستمرار الحياة. والحقيقة أن ما يعنينا فى هذه السطور، من بين كل الثنائيات المتضادة السابقة، هو ثنائية العلم والجهل. ففى سياق التحولات السريعة المتلاحقة فى الألفية الثالثة اتحد النقيضان ليشكلا مفهوما مختلفا للأمية والمواطنة. فطبقا للوحدة الجديدة التى تولدت من الصراع بين العلم والجهل لم تعد الأمية مجرد الجهل بالحروف الهجائية أوعدم القدرة على استخدام الحواسب ولم تعد المواطنة مجرد شروط مطبوعة فى لائحة قوانين الجوازات والجنسية لكل دولة!! .. فمع التطور وتعقد الحياة لم تعد الشهادات والإجازات العلمية دليلا على محو الأمية التى تعددت صورها .. فقد أدرك العالم أو بمعنى اصح العلماء، والمفكرون أن للأمية أشكالا وان اختلفت أنواعها وأسبابها، تتفق كلها فى آثارها الكارثية !! فالأمية فى ابسط أشكالها التى نعرفها،هجائيّة.. بمعنى عدم قدرة الشخص على معرفة الحروف الأبجديّة والهجائيّة للغة الخاصة به وبالتالى فإن محوها يتطلب تعلّم القراءة والكتابة، أما الأُميّة الوظيفيّة فهى عدم قدرة الشخص على فهم المبادئ والأساسيّات الخاصّة بطبيعة العمل والوظيفة التى يشغلها، وترتبط بها الأُميّة المهنية التى تعنى عدم معرفة الشخص بالمهن التى يجب القيام بها والتى تتناسب مع قدراته. النوع الثالث من الأمية هو الأُميّة المعلوماتيّة وتعنى عدم قدرة الشخص على الحصول على المعلومات المختلفة والمتنوعة التى يحتاجها فى العديد من مجالات حياته. أما الأمية الثقافيّة فهى غياب الموروث الثقافى وتسطيح الوعى وعدم الإلمام بمكونات حضارته والحضارات المختلفة والعجز عن التفاعل معها والنهل من منابع الثقافة المتعددة محليا وعالميا..يضاف إلى ذلك الأُميّة العلمية وهى عدم قدرة الشخص على الحصول على مستوى تعليميّ والشهادات العلمية المختلفة. أما الأُميّة البيئيّة فهى جهل الشخص بكلّ ما يتعلق بالبيئة التى يعيش فيها وعدم قدرته على التفاعل معها والحفاظ عليها.. وتأتى الأمية الحضارية فى قمة الهرم وتعريفها عدم مقدرة الأشخاص المتعلمين على مواكبة معطيات العصر العلمية والتكنولوجية والفكرية والثقافية والفلسفية الايديولوجية والتفاعل معها بعقلية ديناميكية قادرة على فهم المتغيرات الجديدة وتوظيفها إبداعيا بما يحقق الانسجام والتلاؤم ما بين ذاتهم والعصر الذى ينتمون إليه.. وفى سياق التعريفات السابقة وما هو معلوم عن تراتبية الدول والأفراد طبقا لتراكمية المعلومات والقدرة على توظيفها بكفاءة، اكتسب مفهوما محو الأمية والمواطنة فى عالم اليوم بعدا مختلفا وشروطا جديدة لا بد من توافرها قبل الفوز بشهادة محو الأمية والحصول على حقوق المواطن الرقمي.. هنا يفرض السؤال نفسه: هل مجرد القدرة على استخدام الحواسب الآلية والانترنت بصورة منتظمة وإنشاء المدونات والتواصل على تطبيقات الشبكة العنكبوتية، مسوغات كافية للحصول على صك المواطنة الرقمية أم أننا جميعا لا نزال مهاجرين غير شرعيين فى دنيا الرقمنة؟ وللحديث بقية لمزيد من مقالات سناء صليحة