كل من ينتهك أسلوب إدخال الدين فى السياسة أو اشتقاق السياسة من الدين هو اليوم فى مأزق، وبصورة أكثر وضوحا أقول: أن يكون الشأن الاقتصادى هو السبب المباشر فى معاناة النظامين الإيرانى ذى «الإطلاقة» الدينية، والتركى ذى «النسبية الدينية» فإن ذلك يرمز إلى مصاعب التكيف مع العالم الحديث استنادا إلى قرارات تهبط على المجتمع من موقع سلطوى مغلق لا مكان فيه لاستشارة الناس.. صحيح أن السياسات التى تتبعها إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب هى القشة التى قصمت ظهر البعير فى إيران، وبدرجة أقل فى تركيا، وينطبق هذا على الانسحاب من الاتفاق النووى الأمريكى الإيرانى وفرض رسوم جمركية على الصلب والألومنيوم اللذين تصدرهما تركيا إلى الولاياتالمتحدة.. لكن الصحيح أيضا أن الأسباب الداخلية فى سياسات البلدين وإدارتهما الاقتصادية تبقى أساس الأزمة فى الدولتين. ففى إيران يتضافر الفساد والإنفاق الموسع على المشاريع الإمبراطورية وكانت (الثورة الخضراء) فى 2009 أبرز تحد يواجهه النظام منذ الثمانينيات وقد بدأت بالاعتراض على نتائج الانتخابات، وانتهت بالاعتراض على السياسات التوسعية. وفى تركيا وبعد النصف الأول من سنوات حكم حزب «العدالة والتنمية» الذى اتسم بنجاحات اقتصادية باهرة بدأ العد العكسى الذى تلازم مع زيادة كبيرة فى المديونية ليجد تتويجه فى نزاع أردوغان مع البنك المركزي، وإطلاقه العشوائية فى نسب الفائدة ثم دعوته الأتراك إلى شراء الليرة المنهارة! واكتملت المأساة بتسليم صهره وزارة المالية!. إن هذه التطورات قد تسقط النظامين أو لا تسقطهما لكن وظائفهما سوف تتأثر حتما، فمن المستبعد أن تستطيع إيران «المفلسة» المضى قدما فى تمويل شبكتها الممتدة من اليمن إلى غزة مرورا بالعراقوسوريا ولبنان، ويرجح أنها سوف تحاول توريط العراق ولبنان بتحميلهما بعض تكلفة أزمتها، أما تركيا فسوف ينهار ما تبقى من جاذبية النموذج الذى طرحه حزبها الحاكم ومناصروه، وهو ما وصف ب «المصالحة الأردوغانية» بين الإسلام والحداثة، وجاء ذلك بعد الضربات الموجعة الكثيرة التى نزلت تباعا بهذا النموذج، ولا سيما التجاوز المتمادى على الديمقراطية، ثم على الإعلام والقضاء والمجتمع المدنى منذ محاولة الانقلاب الفاشلة. ولا تكتمل هذه الانتكاسات الكبرى بغير الإشارة إلى أحداث وتطورات سابقة عليها فى الجزائر، حيث تراجعت كثيرا قوة الأحزاب المسماة ب «الإسلامية» وفقا لما دلت عليه الانتخابات المحلية الأخيرة، وفى تونس تعايشت حركة النهضة أو قيادتها على الأقل مع الواقع الجديد، وفى المغرب رضى حزب «العدالة والتنمية» برئاسة الحكومة، وقبل ذلك ومنذ 1999 مع خلاف عمر البشير وحسن الترابى لم يعد من يطلق عليهم «الإسلاميون» بصفتهم هذه يحكمون السودان.. والأهم من ذلك صعود «داعش» ثم اندحارها فى العراق، ومسئولية التنظيمات المتطرفة عما آلت إليه الأوضاع فى سوريا، و «سلطة حماس» فى غزة التى ضربت الرقم القياسى فى رداءة الأنظمة اقتصادا وتعليما وحريات بألعابها المتتالية سواء فى شكل معارك أو صورة «هدن». ولقد باتت تقدم لإسرائيل الذرائع المجانية لكى تمارس فتكها المجنون بالمدنيين فى غزة، ولنا أن نتوقع احتداما فى العلاقات البينية لأطراف ما يعرف ب «الإسلام السياسي» العراقى بعد التزام حيدر العبادى بالسياسة الأمريكية حيال إيران.. ولا يعنى ذلك أننا لن نشهد فيما هو قادم «حركات اعتراضية» راديكالية ودينية، والمؤكد أن صفحة قد طويت وعلى الجدد أن يفتحوا صفحات جديدة. د. عماد إسماعيل