تعيش الدُّول العربية حَالا من الاستنفار والاستفزاز، وتغيرا فى المواقف، وتبدلا فى المواقع، وهناك تراجع ملحوظ فى الدور القومى لبعض منها، مصحوب بظهور حواضر ثقافية جديدة، وعواصم واهية أو واقعية لصناعة القرار، والاستيلاء على أدوار دول عربية أخرى، أو لنقل وراثتها وهى لا تزال فاعلة فى الساحة على النطاق الوطنى والإقليمى والقومى والعالمى، وإذا كان ما يحدث جزءا من تغيرات كبرى وشاملة، يرى البعض لا مانع من حدوثها، أو ربما من الضرورى ظهورها فى الحياة السياسية العربية، لأجل أن تظل أمتنا فاعلة بغض النظر عن الدولة العربية المؤثرة حجما وقوة مادية ومعنوية فإننى لا أزال مُصِرّا على قناعة مفادها: أن حضور الدور المصرى وتفعليه لصالح العرب، وهو قد يختفى حينا، وقد يتراجع أحياناً أخرى، ولكنه يبقى مُتَربِّصا للظهور من جديد حين تأتيه الفرصة أو عندما يصنعها، وهذا لا يتناقض مع الأدوار الصغيرة والكبيرة للدول العربية الأخرى. الدور المصرى فى مواقع مختلفة من العالم الرَّحب، بدعم عربى أو من دونه، أخذ طابعا تراكميا، وارتبط بنهضة مصر وقوتها، والانشغال المصرى الحالى بالجبهة الداخلية لم يَحُلْ دون نشاط عناصر النَّخْبَة المصرية فى الخارج، والشَّاهد على ذلك ما يقوم به المصريُّون جيل الشباب خاصة خارج بلاهم، بل وخارج المنطقة العربية، وهنا أذكر تجربتين رائدتين، الأولى فى أوروبا إيطاليا تحديدا حيث تم اختيار الكاتب والإعلامى المصرى الدكتور ناصر الجيلانى بعد انتخابات حرة ونزيهة جرت فى مدينة روما فى الثانى من أغسطس الحالى رئيسا لجمعية دعم العلاقات العربية الأوروبية، وهو أول عربى يختار لرئاسة هذه الجمعية. ناصر الجيلانى أكّد فور انتخابه أنه سيبذل كل جهوده من أجل تقوية العلاقات الثقافية والعلمية بين الدول العربية والأوروبية، وأعلن إطلاق مشروع يورو آراب أرتوداى المتخصص فى الترويج المتواصل والحوار بين الفنّانين الأوروبيين والعرب، ضمن عدد من المشاريع المهمة التى ستتبنَّاها الجمعية خلال الفترة المقبلة.. لاشك أن ناصر الجيلانى، قد أكسبته خبرته فى مجالات الرسم والإعداد التيلفزيونى، وتقديم البرامج، والكتابة الصحفية والرحالات، ناهيك عن إقامته لسنوات فى إيطاليا قدرة على التأثير وإثبات الوجود ضمن فضاء الإبداع العربى فى الغرب، ودوره هنا علينا النظر إليه من زاوية الفعل الثقافى المصرى والعربى على المستوى العالمى، وتأثير مصر عبر المنتج البشرى والفكرى لجهة القبول بها شريكا فاعلا فى تقديم صِيَغ التعاون بين حضارتين وثقافتين فى الإطار المتوسطى. التّجربة الثّانية فى أمريكا اللاتينية تحديداً البرازيل، فقد تعرّفت خلال زيارتى إلى معرض ساوباولو، بمناسبة معرض الكتاب, عن شاب مصرى يعمل فى اتحادات المؤسسات الإسلامية يدعى أحمد خلف، هاجر إلى البرازيل منذ ثمانى سنوات، وهناك تعلم اللغة البرتغالية وكون أسرة من خلال زواجه ببرازيلية، يُولى اهتماما خاصا للجالية المسلمة، عبر مشاريع مختلفة تدعمها منظمات وجمعيات العمل الخيرى فى عدد من الدول العربية، منها: الإمارات والسعودية، ومصر، حيث يوجد برتوكول تعاون مع وزارة الأوقاف المصرية والأزهر الشريف فيما يخص العديد من شئون الدعاة التابعين لهما فى دولة البرازيل، وهذا يعنى أن مصر لم تتخل عن دورها الحضارى والدينى حتى فى الظروف الصعبة التى تمر بها فى الوقت الراهن. أحمد خلف ابن الإسكندرية، طاب له المقام هناك، ومع ذلك تَسْكُنُه مصر، ويأخذه الحنين إليها، ويحمل زادها المعرفى وأخلاقها وقيمها.. بداية وجوده فى ساو باولو كانت بعقد عمل مع اتحاد المؤسسات الإسلامية، ويرى فى ذلك مدخلا ضروريا لمن يريد أن يهاجر، ذلك لأن هناك معاناة حقيقية رغم انفتاح البرازيل وترحيبها بالمهاجرين يواجهها من يحضر دون عقد عمل مسبق.. خلف يتحرك ضمن وراثة الوسطية الذى تطرحه مصر من خلال فهمها للإسلام، وهو أيضا المنهج الذى يتبناه اتحاد المؤسسات الإسلامية، الذى يرعى نحو مليون مسلم، منهم نسبة من مسلمين جدد معظمهم برازيليون، أما الغالبية منهم فهم مسلمون ذوو أصول عربية، من بلاد الشام خاصة، أغلبهم من الجيل الثالث للمهاجرين. تًجْرِبِتَا ناصر الجيلانى فى إيطاليا، وأحمد خلف فى البرازيل، تكشفان عن حضور مصرى عير منقطع لجهة إظهار دور الكفاءات المصرية وإمكانياتها، وقدرتها على مدِّ جسور مع الآخر، وإقامة علاقة سوية وفاعلة، كما أنهما تُبيِّنان تجاوز أغلال اللغة وحواجز الجغرافيا وبُعْد المسافات، ومثلما ذهبت مصر بعيدا فى القرون الخوالى إلى حيث الاسهام الحضارى بما ملكته من سلطة المعرفة، يذهب أبناؤها اليوم إلى مواطن كثيرة مسلحين بروح وطنية عالية، وبإرث قومى متراكم، وبإصرار على الوجود والمشاركة، وعلى الرغم من أن كل ذلك يُمثِّل جهودا فرديةً كللت بالنجاح، إلا أنه فى المحصلة يخدم الحضور المصرى، العائد رغم ما فى المرحلة من صعوبات وعقبات، مُحمّلا بامال ووعود كبرى بالتغيير. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه