فى صبيحة اليوم نستقبل أفضل أيام الدنيا فى العام، يوم عرفة، ليس للمسلمين وحدهم، ولكن لكل البشر، فهو اليوم الذى تأسست عليه البشرية، يوم عرفنا كينونتنا. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، ولم يقل لتعاركوا أو يحارب بعضكم بعضا، كما نفعل الآن، ولذلك فأول رسالة لنا، نحن المسلمين، أن نكون رسل سلام، ومحبة، وتعاون بين الناس وبين الشعوب. وعرفة حرم مكة التى حمل إبراهيم عليه السلام ابنه إسماعيل وأمه المصرية هاجر إليها، وحملها فى رسالة بسيطة (إلى حرمى وأمنى) من أول بقعة خلقتها لتعميرها، ومنها يخرج للبشرية رسول المحبة (محمد صلى الله عليه وسلم) لتستقر أحوال الناس والشعوب على روح جديدة، آخر رسالة سماوية وبأحكم كتاب للناس: القرآن الكريم. مازال صدى حوار إبراهيم مع ابنه إسماعيل، عندما أوشكا على الانتهاء من إعادة تشييد البيت الحرام بمكة (البيت العتيق) أول بيت وضع للناس، يتردد فى كل عقل وضمير العالم حتى الآن إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها، ونقلها كاتبنا الإسلامى (على أحمد باكثير 1910- 1969) بشفافية مطلقة، يتردد ذلك الصدى فى جنبات عرفة. إبراهيم يداعب ابنه: لماذا أنت صامت؟ قال الابن: لقد أوشكنا أن نفرغ من عملنا فلو صبرنا قليلاً عن الحديث حتى لا يشغلنا عن إتمامه اليوم. يقول إبراهيم لابنه:يا ليتنى أحسن لغتك (يقصد العربية) فأكلمك بها فهى أشرف وأكرم..ابنه يريد أن يعرف كيف؟ يقول إبراهيم أبو الملة (أقصد التوحيد والإسلام) سينزل بها الكتاب الكريم على الرسول العظيم من ذريتك، فتكون لسان المهتدين به فى مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة. إبراهيم عليه السلام يتذكر أن ما عند الله خير وأبقى، ما أسرع مرور السنين، لكأنما كان ذلك أمس، إذ بلغت بكما ذلك المكان، فإنك وأنت بعد رضيع لم تفطم، وليس به يؤمئذ ماء ولا أنيس، وما معكما غير جراب تمر وسقاء ماء، فلما أردت المضى صاحت بى أمك يقصد هاجر أم العرب، بل أم الشرق وبنت المصريين قائلة: تتركنا بهذا الوادى الذى ليس فيه أنيس ولا شيء!, فوقفت حزيناً لا أجد جواباً، فلما رأت منى قالت هاجر (وقولها الحق) الله أمرك بهذا؟ قلت نعم..إذن لن يضيعنا الله، فانطلقت يا بنى أريها أنى جلد لئلا يحزنها حزنى حتى إذا بلغت تلك الثنية، استقبلت البيت العتيق بوجهى ودعوت الله لها ولك ولأمتك من بعدك تلك الدعوة المستجابة والمستمرة بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذه الكلمات من هاجر (أم الأرض) بنت مصر، لذا نقول عنها (مصر أم الدنيا) تلك حقيقة سماوية خالدة، من ينكرها أو يسخر منها لا يعرف الأديان ولا يدرك ملة إبراهيم، وكل الكتب السماوية التى عرفتها البشرية. إبراهيم عليه السلام يواصل حديثه مع إسماعيل، لو كانت امرأة أخرى قبل يومئذ ما آمنت ولا أطمأنت، إن لله يا بنى له حكمة فى كل شيء، لقد ألهم سارة خالتك أن تغار منك، ومن أمك ليكون ذلك سبباً لعمارة بيته العتيق، وليجعل لى ولك شرف بنائه وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود. ويتذكر إبراهيم وابنه إسماعيل، ونتذكر معه اليوم وغداً زوار البيت الحرام بل كل المسلمين.. الصديقة المصرية هاجر أم إسماعيل صاحبة زمزم، بارك الله فيها وفى ولدها، وأم السيد المختار من ولد إسماعيل (محمد صلى الله عليه وسلم)، فهى التى بدأت مسار البشرية فى سعيها بين الصفا والمروة، وجعل الله كل مواطئ قدميها مسارا للحجاج فى كل بقاع المشاعر المقدسة. إبراهيم عليه السلام اعترف ورد لزوجته كل حقوقها وسيادتها واعتبارها مسار الحجاج حتى يؤمنوا وتصح عبادتهم، ويتذكروا ما فعلت بنت النيل، وهى تسعى لأول مرة بين الصفا والمروة لتحفظ الحياة لابنها، فيتفجر زمزم تحت قدمى ابنها مباركا مبشراً بأمة الإسلام، وإعادة بعث العرب ومكانتهم فى عالمهم. وكما اعترف أبو الأنبياء لابنه بمكانة أمه هاجر، أقر لابنه بقوته ومكانته بعد تثبيت الحجر الأسود، ليكون علما للناس، ونقطة البداية والنهاية فى طواف المسلمين حول بيت الله، حينما أراد الابن أن يعفى أباه من إكمال البناء احتراما لسنه، وأنه شيخ كبير فقال له: لقد أمرنى الله أن نبنى البيت معاً، لا أن تبنيه أنت وحدك، قائلاً يا أبتاه لقد أمرك أن تستعين بى وهو يعلم أنك شيخ كبير وأنى شاب جلد. إبراهيم عليه السلام: صدقت يا بنى والله ما رأت عينى فى بلاد الشام ولا أرض كنعان فتى أجلد ولا أمتن منك، لله هذه الأرض التى ربتك فشدت لحمك وصلبت عظمك، ولله در ابنة النيل التى أرضعتك. دعوة إبراهيم وكلمات هاجر ورسالة محمد والإسلام تجسد لنا كل عام أطواق النجاة، ومواجهة التحديات الصعبة التى تمر بها منطقتنا. وصدى أصوات الأنبياء من مكة، والتفاف البشر حول الخالق بكلمات لبيك تعيد الثقة والقدرة لأمتنا وشعوبنا على حمل رسالة الحياة التى أودعها الخالق فى قلوب البشر المؤمنين. لمزيد من مقالات أسامة سرايا