صحيح أن العدالة هى جوهر الديمقراطية؛ إذ بمبادئها، ونظمها وآليات مؤسساتها فى المراقبة والمساءلة، تلاحق بالإنصاف والاستحقاق كل استنقاص لأشكال الحقوق جميعًا، التى يكون سببها اختلال التوازن بين المشاعر والإدراك، حيث تتسيد دوائر المشاعر الذاتية، وتنغلق على الأنانية والجشع والاستحواذ، بما ينفى إدراك حقوق الآخرين، فتشكل حالة عماء عن إدراك وضوح العدالة هدفًا ضروريًا لقوام العالم؛ لذا تتصدى الديمقراطية لاستباحة حقوق الآخرين بامتداداتها المتنوعة، لتتجلى عوائدها ومردوداتها مناخًا عامًا، وسلطانًا مرجعيًا يضبط ممارسات مؤسسات المجتمع وأفراده فى مواجهة أى تحكم واستحواذ لفرد أو فئة، لكن الصحيح كذلك أن الديمقراطية ليست مجرد الوعى بالحقوق؛ ولكنها مشروطة بالقدرة على تحويل الحقوق إلى حقيقة مجسدة، فاعلة بالنسبة إلى الجميع، أى أن تصبح الحقوق سلطة تفرض حضورها المشروع، وهى لا تصبح كذلك إلا حين تكون فى حماية الوعى بضرورة المسئولية العامة، الملتحمة بالحضور الدائم لعزم المواطنين النشط على ممارسة الاضطلاع بمسئوليتهم العامة، حماية لحقوقهم، وكسرًا للوصاية والاستقطاب، ودون ذلك تتراجع الديمقراطية، وتعجز عن الوجود، انطلاقًا من حقيقة أن اللامبالاة أخطر أعداء الديمقراطية. ولا شك أن بعض الديمقراطيات قد تعانى نكوصًا يفقدها مشروعيتها، ويتبدى ذلك واضحًا فى الرواية المتخيلة بعنوان البصيرة، التى أبدعها الروائى البرتغالى جوزيه سارا ماجو1922- 2010 ؛ انطلاقًا من أن الفن يسبق كل ما عداه فى التعبير، بل يتعداه ويتجاوزه، وإن كان لا يلغى غيره، بوصف المبدع يلتقط الذى لا يمكن احتيازه واقعيًا؛ لذا فإن الإبداعات الفنية يمكنها أن تروع جمهورها بتمكينه من رؤية ما لا يرى فى الواقع، بوصف المخيلة وحدها المنتجة لواقع آخر يتجاوز معطيات التجربة المعيشة. إن الرواية تكشف عن معضلة إحدى الدول، حين أجرت الانتخابات العامة برسم الديمقراطية، وعند انتهاء فرز الأصوات تجلت حقيقة المعضلة الكبرى المفاجئة؛ إذ تبين أن 87 % من أصوات الناخبين جاءت أوراقهم الانتخابية بيضاء فارغة، أما الأصوات الباقية التى نسبتها 13 % فقد قسمت بالتساوى بين الأحزاب المسيطرة، اليمينية، والمعتدلة، واليسارية. إن خطاب هذه المعضلة معقود على معنى وحيد، مفاده بطلان الانتخابات، حيث لا ينقص هذا المعنى إقرار المشيئة العامة، كما لا يعوزه اليقين. ويتبدى جليًا ما تكشف عنه دلالات تلك المعضلة، ذلك أن الحقوق الديمقراطية لأصوات الأغلبية الكاسحة للناخبين، كانت محصنة بوعيهم، محمية بضمائرهم، ولم تكن قابلة للتفريط، أو مطروحة للمزايدة؛ بل مقرونة بالمسئولية العامة التى مدارها خارج دائرة المصالح الخاصة لفرد أو فئة؛ لذا فإن الأغلبية بسلاح حقوقها، واجهت نتائج، وقرارات، وتجاوزات، ومناورات سلطة تحولت تسلطًا نافذًا، وفقًا لحسابات مصالح أقلية مسيطرة على مصائر الناس وأقدارهم، حولت الديمقراطية إلى نظام لا أساس لشرعيته، أفقد الديمقراطية جوهرها بإنكاره العدالة، واستلابه الأغلبية وجودها، وابتلاع حقوقها بممارسات آليات إخفاء المقاصد، كالنفوذ الخفي، والمناورة، والخداع، وصناعة الخطابات الزائفة المتشدقة بالديمقراطية، والتلاعب بالإعلام، واستدراجه للترويج لصور مغلوطة، مفارقة للحقيقة اليقينية القائمة، لقد تجاهل المسئولون الحكوميون البحث عن تفسير لما حدث؛ إذ انكشفت تضليلاتهم، لكنهم راحوا مع بعض زعماء الأحزاب يبحثون عن هؤلاء الذين تجرأوا على تحدى شرعية النظام؛ بل التخطيط لأفضل معاقبة للشعب وترويعه. ترى هل إقصاء الأغلبية الكاسحة بالألاعيب الخافية، ينتج مجتمعًا أو برلمانا ديمقراطيًا شرعيًا حقيقيًا؟ صحيح أن هذه التصورات ابتدعها المؤلف البرتغالى الحائز على جائزة نوبل، جوزيه سارا ماجو، فى روايته البصيرة، مستهدفًا مواجهة الاستبعاد الإقصائى للأغلبية وحقوقها، طارحًا بديلاً يتبدى فى قيام الأغلبية بالاستبعاد الذاتى الطوعى لنفسها، ليس امتثالاً؛ بل تعرية وفضحٌ للفساد الناخر فى كيان النظام الحاكم، صحيح أن البعض يرى أن ذلك يعد نوعًا من الاحتجاج الصامت، مشحونًا بمعان تنذر بالسوء، لكن الصحيح كذلك أن رهان الكاتب هو الكشف عن ثقل الوزن السياسى للأغلبية الكاسحة، التى يجب أن تحظى يومًا بالأولوية المطلقة، وقد ينتفى ذلك الرهان حين تصاب الأغلبية باللامبالاة تجاه ممارسة حقوقها، ومسئوليتها العامة، وذلك ما يشكل أخطر أعداء الديمقراطية؛ إذ الديمقراطية ليست منهج إدارة سياسية فحسب؛ بل تستهدف التغيير الاجتماعى تحقيقًا لعدالة الاستحقاق لمجتمعها، بالتصدى لمتفاوتات الحقوق بين المواطنين درءًا لتصدع التلاحم الاجتماعي، وفتحًا لتعددية الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين دون إقصاء أو استبعاد، كى لا تظل سلطة إدارة الشأن العام حكرًا على نخبة تمارس كل أنواع النهب المستتر، والهيمنة، والقهر، وإقصاء الحقوق بدكتاتورية متوارية مغلفة بوهم الحرية لمحاصرة وعى الناس، وتتبدى فى خطاب علني، يطرح افتراضات مبدئية عن الديمقراطية، والعدالة، وحقوق المواطنة، لا يختلف عليها من حيث المبدأ، أو يشكك فى مصداقيتها أحد، لكن بالتمدد العنكبوتى لهذه النخبة الحاكمة وسيطرتها تقوض الضبط القانونى لممارساتها، ولا تكترث بالاستخدام الكفء للسياسات التى تؤمن السلام الاجتماعى بمستوياته المتعددة؛ بل تترك ساحاته خالية؛ إلغاء لعالم الناس وحقوقهم، برهانًا على الهيمنة المتسلطة؛ عندئذ يكون هذا النظام السلطوى قد ألغى مبدأ اجتماعية الحق، باغتصابه حقوق المجتمع، وإبطاله فعالية مبدأ المواطنة. ويؤكد جوزيه سارا ماجو فى روايته البصيرة أنه مهما تكن ألاعيب تزييف الواقع ومواراته فإنه لا يصبح لغزًا هاربًا من الفهم، ومهما تكن دهاليز تداخل الوهم تضليلاً للواقع، فإن حصافة الوعى الكلى والبصيرة لدى المواطنين تشكلان اقتدارهم على تفكيك هذا التداخل، بتشخيص الواقع منفردًا، ومعاينة وهمه؛ وفضحه بوصفه تضليلاً. صحيح أن الفقر ينتج الصراع، والصراع ينتج الفقر، وصحيح أيضًا أن الصراعات الأهلية والدينية بوصفها عنفًا جماعيًا تشكل الخطأ الأوسع والأخطر تشويهًا لمعطيات الإحساس بالوطن والعيش المشترك؛ بل الأشد تخريبًا لبنية الدولة الوطنية اجتماعيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، لكن الصحيح كذلك أن ظاهرتى الفقر، وعموم صراعات العنف الداخلية فى المجتمع، تشكلان التحدى الأكبر لمفهوم الدولة من حيث جدارة مسئوليتها وعدالتها، وفاعلية سياساتها فى مواجهة هاتين الظاهرتين، بالحضور القوى لفكرة أن مشكلات المجتمعات لا تستطيع أن تجد حلولاً فعالةً إلا فى انفتاح الحوار والتداول النشط، والمشاركة والثقة، والالتزام بالمسئولية المجتمعية؛ فالعقل لا يوجد فقط خلف إنتاجاته، ولكنه يتقدمها كذلك. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى