بينما كنت أتحدث في مثل هذا اليوم من الاسبوع الماضي عن استحقاق القوات المسلحة ومجلسها الأعلي للحصول علي الاعتذارات الكافية من جميع القوي السياسية والحزبية والتيارات التي تتناحر علي الكعكة المصرية, صدرت قرارات الرئيس محمد مرسي باعتباره القائد الأعلي للقوات المسلحة باحالة خمسة من القيادات العليا الي التقاعد وتعيين المشير طنطاوي والفريق عنان كمستشارين للرئيس مع تحويل الثلاثة الآخرين الي وظائف قيادية مدنية.. وفي تقديري أن المفاجأة المدوية التي خرجت بها هذه القرارات قد عجلت بقرار آخر للرئيس بمنح المشير طنطاوي قلادة النيل العظمي أرفع الأوسمة المصرية, والفريق عنان وسام الجمهورية, وذلك بعد سريان موجات من التفسيرات والتحليلات التي ربما وجد الرئيس أنها يمكن أن تساعد علي اساءة البعض لفهم دلالات قرارات الاحالة الي التقاعد. وبدا أن الرئيس مرسي من خلال هذه القرارات وذلك التكريم يريد أن يضرب عصفورين بحجر واحد.. الأول: أن يبسط صلاحياته كرئيس منتخب علي جميع مؤسسات الدولة في لحظة تاريخية بعد هذا العدوان الغادر في رفح, وأن يؤكد سلطاته واستحقاقه للقب القائد الأعلي للقوات المسلحة دون منازعة, وأن يؤكد أن المناصب العليا في أي مؤسسة للدولة ليست خالدة وأن الدماء الجديدة والشابة لابد أن تجري في عروق المؤسسة العسكرية تحديدا لتتواكب مع المرحلة الجديدة من العمل الوطني في ظل الجمهورية الثانية أو الثالثة كما يحلو للبعض أن يطلق علي جمهورية ما بعد ثورة يناير. الثاني: أن يؤكد للجميع اعتراف مؤسسة الرئاسة وتقديرها للدور الكبير الذي قام به المشير طنطاوي والفريق عنان مع بقية أعضاء المجلس الأعلي في حماية الثورة المصرية وادارة المرحلة الانتقالية علي مدي18 شهرا بكل هذا القدر من الكفاءة التي أدت الي تحقيق أول انتخابات برلمانية ورئاسية محترمة ونزيهة ومعترف بها من الداخل والخارج, في وقت يعلم فيه الجميع أنه كان بمقدور القوات المسلحة الاستيلاء علي السلطة في ظل الأجواء السياسية والأمنية المضطربة وعلي ضوء التراجع المستمر في الأداء الاقتصادي. لقد أراد الرئيس مرسي أن يجدد دماء القوات المسلحة وفي الوقت نفسه أن يكرم القادة الذين اقسموا علي الولاء للوطن والشعب والشرعية والدستور, والذين تحملوا التجاوزات والبذاءات والاهانات في سبيل أن يحافظوا علي الأمانة ويسلموا السلطة الي الرئيس الذي حاز الأغلبية. والآن نستمع الي أصوات بعض ممن تسببوا في كل هذه الفوضي خلال الفترة الانتقالية بضرورة محاكمة المشير طنطاوي والفريق عنان بدعوي أن قلادة النيل والوسام لا يحصنهما من الملاحقة القانونية عما اسموه بجرائم قتل المتظاهرين. وعند هذه النقطة الخطيرة دعونا نتحدث بصراحة.. لقد نجح القادة العسكريون منذ تسلمهم مقاليد السلطة بعد خلع الرئيس السابق وليس تخليه عن السلطة كما يقال في حفظ دماء المصريين من أن يراق في الشوارع والطرقات كما حدث في الدول الأخري.. نجحوا في عدم الانصياع لدعوات البعض بالاستيلاء علي السلطة ومواجهة المعترضين بالقوة اللازمة.. ونجحوا في الالتزام بشرف العسكرية المصرية وعقيدتها القتالية. أما عن ما حدث من مواجهات في أماكن مختلفة, فجميعها كانت في اطار ردود الفعل العفوية من الضباط والجنود الميدانيين الذين تعرضوا لأبشع الاهانات التي لا يحتملها المواطن العادي.. بل أن القوات المسلحة سبق أن تعرضت للانتقادات الشديدة من الكثيرين من أبناء الوطن ومنهم كاتب هذه السطور بسبب تهاونها في معالجة بعض الأمور بالشدة اللازمة التي تحفظ للوطن أمنه وسلامه الاجتماعي, بحجة الالتزام بحفظ الدماء المصرية والالتزام بضبط النفس, وهو الالتزام الذي أسفر عن هذه الفوضي المدمرة التي تعاني منها مصر بعد الثورة والتي اعتادت أن تتخذ من الثورة شعارا لها والثورة منها براء. دعونا نتحدث بصراحة أكثر.. كيف ستتعامل قوات الشرطة والجيش مع كل هذه الفوضي في المرحلة القادمة؟.. أليس مفترضا, بل من المؤكد أن يقع قتلي من بين الخارجين عن القانون في هذه المواجهات المرتقبة ؟.. هل سيطالب أدعياء الثورة وراكبوها عندئذ بمحاكمة قتلة المجرمين والخارجين عن القانون كما يطالبون الآن بمحاكمة المتسببين في قتل المجرمين والمأجورين الذين اندسوا وسط الثوار وأشعلوا نيران الفوضي في أحداث ما بعد الثورة ؟. وطبقا للمعلومات المتسربة عن لقاء الرئيس مع القوي الوطنية الخميس الماضي, هناك من يؤكد أن الرئيس مرسي قال أنه لا قلادة تحمي, ولا تكريم يمنع من المساءلة القانونية لأي مواطن, بينما تحدث البعض عن أن عددا من الحضور أبدوا اعتراضهم علي تكريم المشير طنطاوي والفريق عنان خوفا من عدم محاسبة المجلس العسكري علي أي تقصير أثناء توليهم مسئولية إدارة البلاد. وفي اطار النظر الي الجدل القانوني حول حقيقة أن قلادة النيل العظمي تحمي حائزها من الملاحقة القانونية أو لا تحميه, فانني أحسب أن منح الرئيس أرفع وسام لأي مواطن, هو اعتراف رسمي بسمو الخدمات التي قدمها هذا المواطن لدولته ووطنه.. وأميل في الوقت نفسه الي الرأي القانوني الذي يقول بأن منح القلادة لأي مواطن تحميه من المحاسبة عن أي أخطاء قد يكون ارتكبها في الفترة السابقة, وأنها بمثابة عفو عن كل ما قد يكون قد أرتكب من جرائم اذا صح أن هناك جرائم ولكن بطبيعة الحال لا يمكن أن تشكل هذه الأوسمة حصانة ضد المساءلة القانونية عن أي أخطاء مستقبلية اذا وقعت وثبتت في حق الحاصلين عليها. بقيت ملاحظتان هامتان حول لقاء الرئيس مع القوي الوطنية.. الأولي أن الرئيس مرسي قد أكد أنه يتصرف ازاء الأزمة الأمنية في سيناء بما يمليه الأمن القومي وبدون موافقة إسرائيل وأن القوات المصرية دخلت إلي المنطقة ج وتتخذ كل الإجراءات اللازمة بدون الرجوع إلي إسرائيل, وهو ما يتفق مع ما قالته صحيفة هاآرتس الإسرائيلية في اليوم نفسه الخميس الماضي- من إن الجيش المصري قام بنقل تعزيزات عسكرية إلي سيناء دون إبلاغ إسرائيل بذلك مسبقا. الملاحظة الثانية تتصل مباشرة بالأولي وهي مطالبة أحد حضور لقاء القوي الوطنية بعدم تفاوض الرئيس مرسي مع الاسرائيليين حول تعديل بعض بنود اتفاقية السلام, بحجة أن ذلك التفاوض سوف يكون اعترافا منه باتفاقية السلام التي تلقي علي حد زعمه- معارضة ورفض من عدد كبير من القوي السياسية المصرية. وهنا اتساءل: ماذا يريد هؤلاء ؟.. هل يريدون الغاء الاتفاقية برمتها ؟ وهل تحتمل مصر عواقب هذا الالغاء ؟.. وهل نسي هؤلاء أن الرئيس مرسي قد أعلن التزامه باتفاقية السلام وجميع المعاهدات والاتفاقيات الدولية.. وهل نسي هؤلاء أن تعديل بعض بنود معاهدة السلام مع اسرائيل هو مطلب شعبي ورسمي يضمن لمصر حقوقها التي ضاعت وأمنها القومي المهدد ؟. ولا أملك غير أن أقول للرئيس محمد مرسي: احذر هؤلاء الذين يريدون توريطك في قضايا قد تأخذ المجتمع كله الي الحضيض والفوضي بأكثر مما نحن فيه. المزيد من مقالات محمد السعدنى