إن حاجة المجتمع لقوانين تنظمه ولقضاء يحسم المنازعات بين أفراده تتفاوت وفقا لمدى إدراكهم ما تتطلبه ضرورات الحياة فى المجتمع وسلامته. فكلما كان وعى المواطن مقصورا على منافعه الشخصية وكانت كل جهوده منصَّبة على القيام بتحقيق هذه المنافع دون أى اعتداد بحقوق أفراد المجتمع الآخرين وبالمصالح العليا للدولة كلما زادت الحاجة إلى قوانين تضبط كل العلاقات بين الأفراد، وكلما زادت كذلك الحاجة لقضاء يحسم المنازعات النابعة عن غياب الوعى الجمعى والفردى والتصرفات غير المشروعة. وعلى العكس من ذلك، فإنَّه كلما توافر وعى المواطن بحقوق الآخرين المماثلة لحقوقه واحترامه لها وللصالح العام، قلَّت الحاجة لتدخل الدولة بتشريعاتٍ تنظم علاقات الأفراد وقضاء يحسم منازعاتهم. ولعل أقرب صورة حيَّة تُعبر عن أهمية هذا التناسب ما هو قائم فى مجال الصحة العامة فى المجتمع، فمن المعلوم أنه كلما توافر الوعى الصحى فى المجتمع وإدراكه أهمية الحفاظ على البيئة ومنع التلوث الذى يهدد حياته، قلَّت الحاجة إلى البحث عن علاج ودواء للمواطنين وإنشاء المستشفيات. إن المشرع المصرى لم يَكِف منذ عقودٍ طويلة وخاصة بعد ثورة 23 يوليو 1952 عن إصدار تشريعات لا تعد ولا تحصي، غير أنَّ العديد من هذه التشريعات لم يرَ النور أو يفتقد قوة الإلزام وتنفيذ العقوبات المقررة، ولعل من الأمثلة الصارخة على ذلك القوانين التى تحد الفوضى والمخاطر القاتلة التى تسود الشارع المصرى وكل وسائل الانتقال التى لا يَعبأ المواطنون بالالتزام بها أو يجهلونها بداية. وكذلك القوانين المتعلقة بالبيئة التى لا تحتوى على أى عقاب رادع للمخالفين رغم أهميتها فى حياة المجتمع. ولعل المواطن له العذر فى رفض الامتثال لهذه القوانين نظرًا لما يشهده من تفاوت فى تطبيقها على فئات المجتمع المختلفة بل عدم التزام بعض مؤسسات الدولة ذاتها بالالتزام بها، بل وبأحكام الدستور. وإزاء الاستخفاف بأحكام القانون ومخالفته جهارا نهارا من جانب الفرد والدولة على حد السواء فإنَّه يتعيَّن تدخل السلطة القضائية الحاسم لوضع حد لتجاوزات من شأنها أن تصل بنا إلى شريعة الغاب. ذلك أنَّ تخاذل القضاء أو تباطئه فى فرض أحكام القانون بشكل حاسم من شأنه أن يزيد من قناعة المواطنين بغياب دولة القانون. هذا فضلا عن أنَّ هذا التباطؤ من شأنه أن يُفقد أحكام القضاء فاعليتها اللازمة المتمثلة فى قوة الردع لمنع تكرار المخالفات. ذلك أنَّ مرور حقبة من الزمن بين قيام النزاع وإصدار الحكم يُخرج الحكم من سياق النزاع إذ يتم التباعد بين منطوق الحكم ووقائع النزاع، ويفقده الصلة بعالم الواقع. ومما قد يزيد من فقد الحكم الصادر من المحكمة للفاعلية المطلوبة تخاذلُ القائمين على التنفيذ عن القيام بدورهم لأسباب لا مجال لذكرها، وكثرة الحيِّل التى يجيدُها البعض للتهرب من التنفيذ. ولا محلَ لإلقاء اللوم على قضاة مصر الأجلاء الذين يبذلون جهدا قلَّ أنْ يبذله أى قاضٍ فى العالم، وذلك بقيامهم بالنظر فيما قد يفوق المئات من القضايا المتكتلة فى جلسة واحدة وذلك بسبب الفقد الكامل للتناسب بين عدد القضاة المحدود وعدد المواطنين الذى يربو على المائة مليون. ومن الثابت وفقًا للمعايير الدولية ضرورة توافر نسبة معقولة من المحاكم تتناسب مع أعداد المواطنين حرصا على التحقيق السليم والناجز للعدالة. ويتعين من ثمَّ إعمال هذا المعيار الدولى كى نضع حدا للتباطؤ الكبير فى التقاضي. وقد قيل بحق إن العدالة البطيئة هى إنكار للعدالة. ومن النتائج الخطيرة التى تترتبُ على بطء القضاء ما نشهده من حلول ما يُعرف بالمجالس العرفية محل القضاء الرسمى فى مختلف المدن والمحافظات. وهذه المجالس تتمثل فى هيئات تُشكل بشكل عفوى معظمهم من رجال الدين عديمى الخبرة بالقضاء، وهم يطبقون مبادئ لا صلة لها بقانون الدولة بل كثيرا ما تخالف النظام العام وحقوق الإنسان. ومما يزيد الأمر سوءا تمتعُ القرارت الصادرة عن هذه المجالس بقوة تنفيذية تفوق تلك التى تتمتع بها أحكام القضاء الرسمى فى الدولة وتجُبُه عند التعارض. إن المطلب الأول للإنسان هو العَيْشُ الآمن، وهو مطلبٌ يسبق كل المطالب الأخرى بما فيها الغذاء نفسه، كما أكد علماء النفس وعلى رأسهم العالم الأشهر مازلو. وهذه الحياة الآمنة تزيد من الحاجة لقضاء ناجز يُعطى كل ذى حقٍ حقه بالسرعة الضرورية لتحقيق هذا الأمان والتنفيذ الفورى للحكم. ونظرا لأن القواعد القانونية من تشريعية ودستورية وكذا أحكام القضاء لا تملك قوة ذاتية لفرضها على الكافة، فإنَّه يتعين توافر الآليات المؤسسية الكفيلة بوضعها موضع التنفيذ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنَّ الأمر يتطلبُ بداءة إمكان الكشف عن جميع المخالفات التى تقع تمهيدًا لملاحقة القضاء لها. ولتحقيق هذا الهدف لجأت العديد من الدول الحريصة على سيادة القانون ومن بينها دول عربية إلى إنشاء ما يُعرف بمفوضية حقوق الإنسان، وهذه المفوضية هى بمثابة مرصدٍ للقيام بالكشف عن أى إهدار لحق من حقوق الإنسان عند المنبع، واتخاذ اللازم نحو حماية أصحاب الحق المهدر إما مباشرة بطرح الأمر على القضاء وطلب التعويض اللازم وإما بإبلاغ السلطات المختصة بالوقائع المخالفة قبل استفحالها. وقد قام المجلس القومى لحقوق الإنسان منذ أوائل سنوات وجوده فى العقد الأول من هذا القرن بإعداد مشروع قانون شامل بشأن إنشاء مثل هذا المرصد فى مصر للحد من إهدار القانون وذلك سواء بإلزام جميع مؤسسات الدولة بوضع خطط عملية للتوصل إلى مرتكبى المخالفات دون تفرقة بين المواطنين والقيام كذلك بالكشف مباشرة عن كل ما يتم بالمخالفات أيا كان مصدرها واستصدار أوامر وقتية بوقف هذه الانتهاكات. وتتمتع هذه المفوضية العليا بكامل الاستقلال عن كافة أجهزة الدولة وتقوم بفرض الرقابة عليها. ويحدونا الأمل فى قيام المجلس القومى لحقوق الإنسان فى تشكيله الجديد بإعادة طرح هذا المشروع على مجلس النواب الحالى وعلى القائمين على شئون الدولة بعد أن تم للمجلس الأسبق طرحه أكثر من مرة ولكنه ظل حبيس الأدراج لأسباب لم تعد خافية. لمزيد من مقالات د. فؤاد عبد المنعم رياض