صحفيون كبار أصدروا «الأهرام» قبل هيكل ب «86» عاما لكنهم لم ينالوا أى تكريم عندما أكتب عن «الأهرام» أو «أهرامنا» بمعنى «أهرام» كل العاملين فيه أشعربسعادة غامرة، وبرهبة المسئولية. فأنا أكتب عن بيتى الثانى الذى قضيت فيه صحفيا نصف قرن، وأكتب عن أسرتى وإخوتى وأحبائى الذين شاركتهم أفراحهم وأحزانهم وتمردهم وطموحاتهم وطعامهم وتابعت أبنائى الذين تحملوا المسئولية بعدنا. وكنت اقضى نهارى ومسائى أعمل معهم حتى صدور الأهرام وحتى صباح اليوم التالى. المفروض أن أكتب عن «أهرام القرن الواحد والعشرين» لكن لاتنسوا أن الذى قاد «الأهرام» الى القرن الواحد والعشرين هو «أهرام القرن العشرين» وقد كان الفارق كبيرا بينهما. لايصح أن نتحدث عن « أهرام القرن الواحد والعشرين» وإنجازاته ونتجاهل ماسبقه من جهود صحفيين وكتاب كبار قضوا عمرهم يعملون بحب وإخلاص من أجل مهنتهم ومن أجل «أهرامهم». الفارق الجوهرى بين «الأهرامين» أننا كنا ننتمى فى «أهرام» الأمس الى أسرة، لكن «أهرام القرن الواحد والعشرين» تحول الى مؤسسة بعد قيادة الأستاذ محمد حسنين هيكل. كنا أسرة تحيط بنا مشاعر ودفء الأسرة وبساطة العلاقات بين أفرادها لكنها تحولت الى مؤسسة «الأهرام» بقدوم أستاذنا وبانتقالنا من عالم الأسرة الذى تغلب عليها البساطة ومشاعر المحبة والود الى عالم المؤسسة بكل التزاماتها وماتفرضه من قواعد وقيود، وبكل طموحات الأستاذ من أن يجعل منها واحدة من أفضل عشر صحف فى العالم وقد تحقق له ما أراد. كان «الأهرام» حتى عام 1962 هو «أهرام» سليم وبشارة تكلا، ولكن بدءا من قوانين تأميم الصحافة التى صدرت وأطلق عليها الأستاذ صكه الشهير « تنظيم الصحافة « حتى يخفف من وطأة صفة « تأميم « أصبح أهرامنا « أهرام هيكل» الجريدة أو المؤسسة خضعت تماما لارادة الأستاذ ورغبات الأستاذ وسطوة الأستاذ. عدد كبير من جيل الستينيات من الصحفيين سقطوا فى غرام الأستاذ فقلدوه لاشعوريا فى كلامه وفى أسلوب كتاباته وحتى فى ملابسه وربطة عنقه! لكن هناك كثيرين من الزملاء الذين حافظوا على استقلاليتهم وكانت لديهم الحصانة فرفضوا أن يكونوا صورة من الأستاذ. أنا أكتب عن «الأهرام».. ولأن «أهرام القرن الواحد والعشرين» لايزال قائما وصحيفتنا تصدر كل صباح وتتصدر كل الصحف المصرية بخبرات وجهد أجيال جديدة من الصحفيين يحملون المسئولية بشجاعة ويتحملون تحديات من نوع آخر طبقا لظروف العصر، فسوف يجد هذا «الأهرام» من يكتب عنه اذا ما استمرت الصحافة الورقية قائمة ومنتعشة ولو أننى أشك فى أن هذا الانتعاش سوف يستمر لأكثر من سنوات قليلة بفضل تقدم وسائل الاتصال ومنافسات الإعلام الألكترونى. ولأن «أهرام» «القرن العشرين» الذى كان قائما فى شارع مظلوم بباب اللوق اختفى فى ظلام النسيان ولم يعد أحد يذكر هؤلاء الصحفيين والكتاب الكبار الذين أفنوا عمرهم بين جدرانه وصفحاته، ولأن « أهرام القرن ال 21» أعد عنه الآن كتابا سوف يصدر باذن الله فى الخريف المقبل فقد قررت أن أكتب فى العيد ال 142 لميلاد العدد الأول من «أهرامنا» عن «أهرام القرن العشرين» الذى لم أنسه وقضيت فيه السنوات الأولى من عملى الصحفى بعد تخرجى فى الجامعة. سوف أعرض اليوم وبهذه المناسبة التى نحتفل بها جانبا من أهرام العهد الماضى قبل وبعد مجيء الأستاذ الى «الأهرام» فى أغسطس 1957 سوف أقدم بعض من كان لهم الفضل فى استمرار صدور «الأهرام» وتفوقه حتى استقبالهم للأستاذ رئيسا لمجلس إدارة ورئيسا لتحرير «الأهرام». قضيت ثمانى سنوات فى «أهرام القرن ال 20» فى باب اللوق. فى بيتنا القديم قبل أن أنتقل مع زملائى الى «أهرام القرن ال 21» فى شارع الجلاء عام 1968. لكن قبل أن أطرق أبواب بيتنا العتيق أشهد أن «الأستاذ» كان صاحب الفضل فى الحفاظ على مؤسسته التى بناها مستقلة وقوية وصاحبة التأثير الأكبر على الرأى العام وبعيدا عن أى تدخلات من الحكومة أو أصحاب المال والأعمال حتى بعد خروجه عام 1974. وكيف يجرؤ أحد على التدخل فى «الأهرام» والأستاذ كان صديقا قريبا ومشاركا للزعيم جمال عبدالناصر فى صنع القرار؟ ظل «الأهرام» قويا يعمل بجهد من تسلموا القيادة من الأستاذ حتى أوائل الثمانينات. حافظ الأستاذ على تقاليد «الأهرام» وعلى أخلاقيات الصحافة التى أعطاها عمره والتى استحقت خلال سنوات قيادته «الأهرام» أن يطلق عليها «صاحبة الجلالة». الحكومة كانت تجرى وراء «الأهرام» ولم يكن محررو «الأهرام» يلهثون وراء مصادرهم. عصر الأستاذ كان يذخر بالقمم: مصطفى أمين وعلى أمين وجلال الدين الحمامصى وموسى صبرى وأنيس منصور وغيرهم لكن الأستاذ فى رأيى كان رقم واحد أو كان «قمة القمم». وليس فى ذلك الحكم أى تحيز لكننى أشهد على فترة عشتها صحفيا ب «الأهرام» وسمحت ظروف عملى أن أقترب من الأستاذ. المشكلة عندما أكتب عن «أهرام القرن ال 21» هى أننى لا أجد أمامى سوى الأستاذ يتابعنى فى كل سطر بل فى كل كلمة. وليس ذلك عيبى لكن الصورة من قريب أو بعيد لم يكن فيها غير الأستاذ. كل من شارك الأستاذ ومن قبل الأستاذ فى النهوض ب «الأهرام» كانوا فى الظل ولم يكن الضوء مسلطا إلا على الأستاذ حتى صك «إطلالة على القرن ال 21» هو من عنده ولهذه الأسباب أكتب لكم عن «أهرام القرن ال 20». الأهرام صدر بانتظام على مدى 82 عاما قبل تعيين الأستاذ رئيسا لمجلس الادارة ورئيسا للتحرير فى عام 1957. وشهادة غالبية الباحثين فى الصحافة تؤكد ان «الأهرام» كان الصحيفة الأقوى تأثيرا والأكثر انتشارا فى عالمنا العربى. هناك صحفيون وصحفيات كان لهم الفضل فى هذا الاستمرار وهذا التفوق... واذا عدنا الى الماضى القريب أو ماقبل عام 1952 قبل سنوات من دخول الأستاذ «الأهرام» كان سوق الصحافة فى مصر منتعشا تتنافس فيه عدة صحف الى جانب «أهرامنا»: الأخبار التى تصدر عن «أخبار اليوم» منذ صيف 1952 وصحيفة الشعب التى أصدرتها الثورة وأصبحت «الجمهورية» فيما بعد و»المصرى» التى كانت لسان حال حزب الوفد وأغلقها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بعد أزمة عام 1954. وكانت جريدة «الأساس» تصدر عن حزب السعديين الى جانب صحف مسائية أخرى وهى الزمان والبلاغ والمقطم. لكن معظم هذه الصحف اختفت بعد الثورة واقتصرت المنافسة بين «الأهرام» و»الأخبار» و»الشعب». الأستاذ تسلم قيادة «الأهرام» من أحمد الصاوى محمد رئيس تحريرها وكاتب العمود اليومى فى الصفحة الأولى. وكان نجيب كنعان مديرا للتحرير ثم جاء الأستاذ على حمدى الجمال من «وكالة أنباء الشرق الأوسط» مديرا آخر للتحرير. الأستاذ يقول انه عندما دخل «الأهرام» كان متوسط عمر الصحفيين العاملين فى الصحيفة 45 عاما. وأنه قرر أن يعتمد فى ثورة تحديث «الأهرام» على دماء جديدة من الشباب خريجى أول دفعة من قسم الصحافة بكلية آداب القاهرة عام 1958، وقد حدث. لكن الذين حملوا عبء صدور «الأهرام» على أكتافهم لسنوات قبل وصول الأستاذ لم يذكرهم أحد. استسلموا للبقاء فى الظل، حتى انتقلوا معنا الى «أهرام القرن ال 21» فى شارع الجلاء ولكن لم يعترف بفضلهم أحد حتى جاء موعد تقاعدهم ثم رحيلهم رحمهم الله جميعا فنسيناهم!! لأننى أرتبط عاطفيا بالأماكن... عندما انتقلنا الى «أهرام القرن ال 21» فى شارع الجلاء سيطرت على مشاعر الحزن على ثمانى سنوات قضيتها بين جدران «أهرام» شارع مظلوم بباب اللوق ومع صحفييه الذين تحولوا بحكم الظروف الى «رجال الأمس « وفى مطبعته التى كنت اقضى بها نحو خمس ساعات يوميا وأخرج منها والحبر يلطخ يدى وملابسى فى معظم الأحيان. كانت المطبعة فى «أهرام القرن الماضى» فى الطابق تحت الأرضى والحروف الرصاص تصف بماكينات اللينوتيب وتنقل السطور الى الصفحة الحديدية مع الصور القادمة من قسم الزنكوغراف لتصنع صفحة جديدة. كان لدينا من عمال الجمع والتوضيب أفضل عمال المطابع فى مصر وأكثرهم إخلاصا فى العمل وانتماء ل «الأهرام». فى مطبعة «أهرام القرن ال 20» فى باب اللوق كانت تطبع بعد «الأهرام» صحيفة «وطنى» الأسبوعية وتعد فى المطبعة مساء كل سبت لتصدر فى الأسواق أسبوعيا صباح الأحد. وقد تعرفت فى المطبعة بسكرتير تحرير وطنى فى ذلك الوقت «جان زلعوم» المصرى الأصيل الذى أصبح فيما بعد الموسيقار والمطرب «كريم شكرى» وكان يعمل الى جانب صحيفة وطنى مديرا لمكتب شركة أفلام «مترو جولدن ماير» الأمريكية فى الشرق الأوسط وكان مقر الشركة فى سينما مترو بشارع سليمان باشا طلعت حرب بعد ثورة يوليو -. كان كريم شكرى أول من أدى أغانى الفرانكوفون فى مصر واشتهر بأغنية:Take Me Back To Cairo وقد اختارها المرحوم ثروت عكاشة الذى شغل منصب مدير هيئة السياحة فى أواخر الستينيات لتكون واحدة من أدوات الدعاية السياحية لمصر وأرسلها الى جميع مكاتب السياحة المصرية فى الخارج بعد أن صورها بالفيديو كريم شكرى أمام «الأهرامات» و»أبو الهول» بصوته وموسيقاه. ممدوح طه إذا كان الأهرام قد تفوق على جميع الصحف قبل تعيين الأستاذ هيكل رئيسا لمجلس الادارة ورئيسا للتحرير فى الانفراد بالأخبار المهمة، واذا كان قد تحول من صحيفة رأى الى صحيفة خبرية وعصرية من الطراز الأول، فالفضل يرجع الى ذلك الرجل المجهول الذى أعتبره صاحب مدرسة صحفية متميزة سبقت عصرها بسنوات. أبقى عليه الأستاذ فى منصبه لأنه لم يكن هناك بديل عنه بين الصحفيين الجدد. ظل رئيسا لقسم الأخبار الى أن أحيل الى التقاعد فى أول الثمانينيات من القرن الماضى بعد أن أشرف على تعليم وتدريب جيل جديد من الصحفيين الشباب ضم أفضل « مخبرين صحفيين « فى الصحافة المصرية. كان رحمه الله صاحب رؤية وحساسية فى التعرف على الخبر والبحث عنه عند مصادره. صور اجتماعات مجلس قيادة الثورة منذ عام 1952 وحتى أغسطس 1957 موعد انتقال الأستاذ الى «الأهرام» قادما من «أخبار اليوم» تؤكد أن ممدوح طه كان واحدا من الصحفيين القريبين من الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ومن عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، يتابع أخبار اجتماعاتهم وتحركاتهم بصفة يومية ويشاركهم نكاتهم وضحكاتهم وكان ينافس ممدوح طه فى العلاقة بعبدالناصر عدد من الصحفيين من بينهم الأستاذان هيكل ومصطفى أمين لكن بعد فترة قليلة من تولى الأستاذ قيادة «الأهرام» لم يبق من الصحفيين القريبين من الرئيس سواه، واكتفى ممدوح طه بالحفاظ على منصبه رئيسا لقسم الأخبار فى ظل القيادة الجديدة. الأستاذ ممدوح طه رحمه الله بعد أن بلغ سن الستين وهو سن التقاعد نقلوه رغما عنه من الدور الرابع فى التحرير الى حجرة صغيرة بالدور السادس بلا عمل تصوروا..! كل هذه الطاقة وهذه الموهبة التى كان «الأهرام» فى اشد الحاجة اليها لم تتحملها القيادة الجديدة ل «الأهرام». رحم الله ممدوح طه أستاذ أساتذة الخبر فى الصحافة المصرية. كانت مطبعة «الأهرام» فى باب اللوق امتدادا لمطابع هذا العصر التى تعد متخلفة بمقاييس هذا العصر لكنها كانت متقدمة فى عصرها. ابتداء من عام 1958 انتقل إخراج الجريدة وطبعها الى مرحلة جديدة بقدوم المرحوم الأستاذ توفيق بحرى من «أخبار اليوم» الى «الأهرام». فريق سكرتارية التحرير الذين اختارهم بحرى ليساعدوه فى إخراج الصحيفة كانت لهم أيضا بصماتهم فى التطور الذى حدث. صفحة الصحيفة الرصاص التى كان سكرتير التحرير يضع خطوطها بعناية على الورق لم تكن صفحة رصاصية صماء بعد التنفيذ بل كانت تتحرك وتتناغم طبقا لمواد الصفحة، وكانت سطورها تتراقص أحيانا على موسيقى الاخراج الجميل. الأستاذ توفيق بحرى قام بتدريب أفضل كوادر عرفتها الصحافة المصرية فى الاخراج الصحفى، وعندما توفى فجأة فى حادث سيارة يوم 3 يناير عام 1970 واصل «الأهرام» مسيرته ونجح تلاميذه ماهر الدهبى وسمير صبحى وفريد مجدى وكاتب هذه السطور فى الحفاظ على شكل الأهرام وتطور هذا الشكل مع مرور السنوات، وكان لهم الفضل فى إصدار عدة صحف ومجلات فيما بعد الى جوار الصحيفة الأم. كنت أشعر فى المبنى القديم بالدفء والحميمية والألفة. كنا أسرة واحدة نشارك البعض أفراحنا وأحزاننا. كان الاحترام متبادلا بين الكبار والصغار. لاأذكر خلافا وقع بين إثنين إنتهى الى معركة تبادل فيها الطرفان اللكمات والشتائم كما نسمع الآن ونرى من اعتداءات بين مثقفين وأعضاء برلمان ورجال أعمال. البلطجة لم يكن لها وجود فى قاموسنا، وكانت المودة ومشاعر الحب تربط الجميع. لكننى أعتقد أن هذا الود وهذا الحب انتقل أيضا الى «أهرام القرن ال 21». «من كتاب «أهرام القرن الواحد والعشرين» الذى يصدر فى خريف 2018 إن شاء الله».