فى ظل مشهد معقد سياسياً وعسكرياً وتضارب المصالح الإقليمية والدولية فى سوريا،يعيد تنظيم «داعش» بناء صفوفه فى المدن التى طرد منها فى سوريا. دلائل عودة «داعش» واضحة فى تزايد الهجمات التى يعلن التنظيم مسئوليته عنها، والتقارير عن استئناف تدريب المئات من العناصر الجديدة، واستعادة السيطرة على الأراضى التى فقدها «داعش» سابقاً، وإعادة تجميع قواته وعتاده، وتدهور الوضع الأمنى بشكل كبير فى مدينة الرقة التى كانت يوماً عاصمة خلافته المفترضة، واعتقال واعدام عناصر الجماعات المسلحة الأخرى المنافسة له. فخلال الشهر الماضى فقط شنت عناصر «داعش» هجوما على مدينة الميادين فى دير الزور الغنية بالنفط والغاز فى جنوب شرق البلاد مما أدى إلى مقتل 4 جنود روس وإصابة 5 آخرين. كما دخلت عناصر «داعش» فى مواجهات مسلحة ضد مقاتلين من أكراد سوريا فى «قوات سوريا الديمقراطية» وقتلوا نحو 20 من الأكراد فى 4 مواجهات منفصلة فى مدينة الرقة، ومنطقة حمام التركمان فى ريف الرقة، ومدينة الرصافة فى ريف حماة بعدما شنت خلايا «داعش» النائمة هجمات مفاجئة ضد منافسيها على الأرض. كما أعدم التنظيم 6 عناصر من»هيئة تحرير الشام» المنافسة، وقتل آخرون فى هجوم بالعبوات الناسفة فى مدينة سلقين بمحافظة إدلب فى شمال غرب سوريا. أيضاَ تزايدت هجمات «داعش» فى بادية الشام بغرب الفرات، وتواصل عناصر التنظيم التجمع فى حوض اليرموك ودير الزور. ولا يمكن تحديد عدد عناصر «داعش» بدقة، لكن أغلب التقديرات تشير إلى انها تقدر بنحو 10 آلاف مقاتل ينتشرون فى الرقة، وريف حمص، ودير الزور وريف حماة. وقبل أيام قليلة تأكد مقتل حذيفة البغدادي، ابن أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم، فى غارة للتحالف الدولى فى حمص مما يشير إلى أن حمص وريفها لا تزال أرضاً خصبة للتنظيم المتطرف. لكن القلق الأكبر تسببه عودة «داعش» بقوة لمحافظة الرقة التى طُرد منها قبل أقل من عام. ولا يخفى المسئولون الغربيون قلقهم من إستعادة «داعش» السيطرة على المناطق التى طُرد منها. وقال مسئول غربى مطلع على تطورات الملف السورى ل«الأهرام»:»التحالف الدولى ضد داعش وغيره من التنظيمات المتطرفة تفكك تقريباً. فالتنسيق الأمريكى -الروسى فى أدنى مستوياته وهناك الكثير من الرؤى المتضاربة للحل السياسى فى سوريا ما يجعل التنسيق على الأرض أصعب». ويتابع موضحاً:«أيضا دخول تركيا على الخط فى شمال سوريا وانشغال الأكراد بمواجهة القوات التركية أضعف القوة الوحيدة على الأرض التى حاربت داعش وهى أكراد سوريا. وإذا أضفنا إلى كل هذا الشكوك المتزايدة بين الأكراد والأمريكيين، والتدهور فى علاقات الأكراد مع روسيا والحكومة السورية، يمكننا رسم ملامح تفاهمات تتقوض بسرعة كبيرة. فمربع محاربة داعش: أى الأكراد والامريكيين والروس والحكومة السورية، لم يعد ينسق جهوده، بل ان تلك الجهود باتت متضاربة. وداعش يدرك ويستفيد ويتمدد من جديد». أنقاض و«هياكل عظمية» خرسانية: وتعد الرقة أفضل مكان يمكن لعناصر «داعش» إعادة التمركز فيه. ففى شوارعها وأحيائها لن تجد إلا أقل القليل من السكان. وبالرغم من أن كل المدن السورية التى حررت من «داعش» عاد إليها سكانها المدنيون على عجل لتفقد منازلهم وممتلكاتهم التى تركوها عندما دخلت عناصر التنظيم المتطرف، إلا أن الرقة تعد إستثناء. فحتى اليوم، لم يعد سكان الرقة إليها. والسبب واضح, الرقة مدمرة بشكل كامل. والبعض يقول إنها دمرت عن عمد على يد الغارات الامريكية والبريطانية والفرنسية التى شنها التحالف الدولى ضد تنظيم «داعش» لمنع الحكومة السورية وحلفائها والسكان المدنيين من العودة للمدينة التى تقع وسط سوريا وتعد «همزة وصل» أساسية بين الحواضر والمدن السورية الكبيرة. فكل مبانى الرقة إما ركام من الأنقاض أو هياكل عظمية خرسانية قد تنهار فى أى لحظة. وفى تقرير دامغ، ذكرت منظمة العفو الدولية أن الضربات الجوية والصاروخية من قبل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، والتى دامت أكثر من 4 أشهر، تسببت فى خسائر فادحة فى الأرواح، ودمرت نحو 80% من مدينة الرقة ما يتناقض مع ادعاءات واشنطن وحلفائها أن الضربات الجوية كانت «دقيقة» واستهدفت فقط مواقع «داعش». وذكر التقرير الذى استند إلى 112 مقابلة وزيارات ميدانية ل42 موقعا، أن مستوى الدمار يفوق كل مستويات الدمار فى أى حرب أخرى خلال العقود الأخيرة الماضية. ووفقا لأحد ضباط الجيش الأمريكى الذى شارك فى حملة القصف على الرقة فإن «القذائف والمدفعية التى اطلقت على الرقة كانت الأكبر منذ حرب فيتنام». وليس فقط الدمار الهائل هو ما جعل الرقة أرضاً خصبة من جديد لعودة «داعش». بل ما فعله «داعش» بالمدينة قبل مغادرتها. فقد طوق «داعش» المنازل والحقول والممتلكات الخاصة والمساجد بالألغام لمنع السكان من العودة للمدينة. ومع انتقال الأنباء حول «تلغيم» المدينة، قررت الغالبية العظمى تأجيل العودة حتى يتم نزع الألغام عن طريق متخصصين دوليين. ولم يتغير وضع المدينة منذ انتهاء الحملة العسكرية برغم وعود إعادة الأعمار.فإعادة الأعمار مسألة «مسيسة» تماماً فى سوريا. والدول المفترض ان تساهم فى إعادة البناء تربط بين إعادة الأعمار والوضع السياسى مستقبلاً. ورغم أن التحالف الدولى أنفق عشرات الملايين من الدولارات على الحملة العسكرية فى الرقة من أجل طرد «داعش»، إلا أن التحالف لم يخصص أى مساعدات أو دعم إنسانى للعائدين إلى الرقة. وتشتكى وكالات الإغاثة الإنسانية من أن المشكلة الأساسية بالنسبة للعائدين هى العثور على مكان آمن لا توجد فيه ذخائر أو ألغام. ومن نافلة القول إنه ليس لامريكا استراتيجية بعيدة المدى فى سوريا. وبإستثناء الرغبة فى عدم رؤية الحكومة السورية وإيران وروسيا يقطفون ثمار نجاحهم فى سوريا، ليس لواشنطن أولويات أخري. فقد أوقف الرئيس الامريكى دونالد ترامب تمويل ودعم جماعات سورية مسلحة كانت تعمل تحت إشراف المخابرات الامريكية، من بينها «أسود الشرقية» و«مغاوير الثورة»بعدما رفض مسلحوها محاربة «داعش»، إلا مع جهود عسكرية متزامنة لإضعاف الحكومة السورية. كما انخرط الأكراد عبر ذراعهم المسلحة «قوات سوريا الديمقراطية» فى مواجهات عنيفة مع تركيا، وبالتالى لم يعد لامريكا ذراع ميدانية فى سوريا لقتال «داعش». فالأكراد الذين تصدوا لمواجهة عناصر التنظيم المتطرف فى الرقة وشمال سوريا وطردوه بعد معارك استمرت أشهر، يجدون أنفسهم اليوم أضعف من أى وقت مضى مع تكبدهم خسائر فادحة فى المواجهات مع تركيا فى شمال سوريا. وهى مواجهات استخدمت فيها تركيا عناصر من الجماعات المسلحة العاملة فى سوريا متورطة فى جرائم حرب ومن بينهم «داعش». وكل هذا جعل مواجهة عناصر «داعش» التى تعيد تجميع صفوفها أمرا أكثر صعوبة. كما أن المئات من عناصر التنظيم لم يغادروا سورياً أصلاً، بل انتقلوا بأسلحتهم وسياراتهم وعتادهم خلال القصف الامريكى المفترض لتحرير الرقة إلى دير الزور. وكشفت عناصر من «قوات سوريا الديمقراطية» التى كانت تحارب مع الامريكيين على الأرض لتحرير الرقة، أن عناصر «داعش» خرجوا من المدينة بالتفاهم والتنسيق مع «قوات سوريا الديمقراطية» والامريكيين. أما سبب توفير «ممر آمن» لعناصر «داعش» للخروج من الرقة بعتادهم وأسلحتهم فكان تسهيل توجههم لدير الزورلمنع قوات الجيش السورى من استعادة السيطرة على تلك المنطقة الاستراتيجية على الحدود مع العراق والغنية بحقول النفط والغاز. فشل الأكراد فى إدارة الرقة: إضافة إلى ذلك، استفاد «داعش» فى تمدده الأخير من فشل «قوات سوريا الديمقراطية» فى إدارة الرقة ذات الأغلبية العربية. فالسكان العرب بالمحافظة يشتكون من أن «سوريا الديمقراطية» التى تتشكل فى غالبيتها من الأكراد، تفرض ضرائب على السكان المحليين وتجندهم قسراً. كما يشتكون من انتشار الفساد والرشاوى فى الإدارة المحلية للرقة التى يشرف عليها الأكراد. إضافة إلى ذلك تندلع خلافات ومواجهات مسلحة أحياناً بين عناصر «قوات سوريا الديمقراطية» ومتطوعين عرب محليين فى الرقة معروفين باسم «لواء ثوار الرقة»، ما يزيد حساسية العلاقات الحساسة أصلاً بين التكوينات القبلية والعشائرية العربية فى الريف السوري، والأكراد السوريين. ووسط اتهامات متبادلة بين أطراف النزاع فى سوريا بغض النظر عن تحركات عناصر «داعش» من أجل تحقيق مكاسب قصيرة الأجل هنا أو هناك، يتمدد التنظيم المتطرف من جديد مستفيداً من الخلافات العميقة وتناقض الأولويات بين الأطراف المنخرطة فى الحرب السورية.