في أوج الثورة المصرية,وبعد أن اكتست شوارع البلاد بملايين البشر,الحالمين بمستقبل أفضل,الراغبين في امتلاك ناصية بلادهم وأمرهم بعد سنوات وسنوات من العناد غير المبرر الذي قاد البلاد إلي فوهة البركان,في هذه اللحظة,انطلقت في سماء القاهرة مقاتلات مدوية,طارت علي ارتفاعات منخفضة فأحدثت أزيزا هائلا فوق ميدان التحرير!! في هذه اللحظة, وبرغم إيماني بمشروعية ماطالب به هؤلاء, تملكني فرح غريب ونشوة من نوع خاص دفعتني نحو الشرفة أفتح بابها بلهفة ناظرا صوب السماء فخورا,وملوحا بيدي كمثل الطفل الفرح بالألعاب النارية في يوم العيد,ولم أنتبه إلي غرابة تصرفي,إلا عندما اختفت الطائرات من سماء المشهد,ولمحت عيناي بعض جيران خرجوا هم أيضا إلي الشرفات ليشهدوا ما يدور,فوجدوني ألوح بيدي,فكانت نظراتهم إلي نظرات يشوبها الاستغراب,فأعادتني نظراتهم تدريجيا إلي وقاري الذي اعتادوه مني لسنوات وسنوات,وقد داريت إحراجي بادعاء أنني ألوح لشخص محدد منهم حفظا لماء الوجه!! ما الذي أفرحني علي هذا النحو؟ لا أعلم;وأنا المقتنع بحتمية التغيير,ما الذي أفرحني إذن؟ نفس الشعور داهمني مرة أخري يوم شاهدت بأم عيني المدرعات وحاملات الجنود تتوغل في المدائن حاملة شعار( حماية الشعب) من بعد أن دعا الداعون إلي عصيان مدني شامل يستهدف شل حركة الحياة في مصر تماما,وتوجس الناس كل الناس خيفة من هذا المطلب الغريب الكئيب الذي كان يتوعدنا خرابا شاملا يزيد من أحزاننا ويزيد من صفعات الخراب التي توالت علي اقتصادنا علي مدار سنوات وسنوات, ثم تسارعت خطاها عقب استشراء الفوضي في كل مكان كنتاج طبيعي للثورة!! أفرحتني طوابير المدرعات والدبابات وهي تعود إلي أحضان المدينة الخائفة لتطمئنها وتبث الأمان في نفوس أهلها!! نفس الشعور الغريب بالفرحة تملكني مرة أخري وأنا أري الدكتور محمد مرسي يقف وسط الجموع في ميدان التحرير بعد ساعات من توليه منصب أول رئيس مدني للبلاد,يفتح سترته بيديه ليؤكد للناس علي مرآي ومسمع من العالم أنه لا يخاف الموت;وانه لا يرتدي سترة واقية كبقية الرؤساء, وإنما سترة عادية في مواجهة أي محاولة رخيصة قد تحاك ضده!!ما الذي أفرحني إذن في هذا المشهد بالذات؟لا أعلم!! ثم انتابني نفس الشعور بالفرحة وأنا أستمع إلي خبر بدء عملية تطهير واسعة لبؤر إجرام مريبة استقرت في قلب سيناء في غفلة من الجميع تكيل الصفعات واحدة تلو الأخري لكبرياء وطن مستقر,لا نعرف من هم يقينا حتي تاريخه,ولا نعرف من أين أتوا,وكيف استقرت أوضاعهم هناك إلي حد إرسال حملة عسكرية متكاملة من أجل القضاء عليهم... أفرحني مشهد الدبابات وحاملات الجند والمدرعات و لوادر عملاقة خرجت لردم أنفاق سرية طالما عانينا من نتائج وجودها,وشباب مصري في عمر الزهور لبوا النداء ليثأروا لزملاء لهم وأبناء لنا أزهقت أرواحهم بمنتهي الخسة والدناءة وهم وقوف ليحرسوا نقطة حدودية لم يجرؤ عدونا علي مباغتتها بهذا الأسلوب الرخيص,ولكن هؤلاء جرءوا فحرقوا قلوب الوطن في شهر كريم!! ثم كان أن انتابني نفس الشعور مرة أخري و أنا أستمع إلي قرار الرئيس بإجراء تغييرات واسعة غير متوقعة في صفوف قادة القوات المسلحة,هذه القيادات التي لا ينكر أحد أنها كانت أهم صمام أمان أستطاع أن يعبر بالبلاد من ظلمة الفوضي والانهيار إلي بر الأمان,هذه القيادات التي اختارت إرادة الشعب وانحازت لها ولمطالبها منذ اندلاع الثورة وتحملت ما لا يطيقه بشر من تجاوزات!! ما الذي أفرحني إذن؟ الذي أفرحني هذه المرة هو نجاح الرئيس في استعادة صلاحياته,هو قدرة الرئيس الجديد علي اتخاذ قرار جميعنا يعلم انه كان قرارا ليس بالسهل ولم تزل البلاد تموج بالتحديات,ولكنه اختار أن يتخذ القرار الصعب!! الذي أفرحني هذه المرة هو اكتمال الفصل الثالث والأخير من أي مشهد ثوري طبيعي درسناه أو سمعنا عنه في ملفات التاريخ:أوله ثورة,وثانيه فوضي,وثالثه حكم قوي يفرض سيطرته فيبدد الفوضي إلي الأبد,وكان هذا هو الفصل غير المكتمل الذي لم أكن أجد لاكتماله مخرجا(بفتح الميم)لكي تنتهي حالة التخبط المجتمعي الذي نحياه منذ25 يناير2011 حتي اتخاذ الرئيس لهذا القرار,ولقد كان هذا الفصل هو أكثر ما يؤرقني!! نعم,لقد عرفت اليوم ما علاقة فرحتي بكل تلك المتناقضات التي قصصتها عليك لتوي:أزيز الطائرات في سماء القاهرة, والمدرعات التي حملت شعار(حماية الشعب),وسترة الرئيس غير الواقية,والعملية(نسر)الجارية الآن فوق أرض سيناء,ثم قرار الرئيس بإجراء تغييرات جذرية في قيادات القوات المسلحة!! إنه الحنين الإنساني الطبيعي للشعور بالأمان,وهو شعور لا يتأتي أبدا إلا في وجود الإحساس بالقوة,خاصة وأننا شعب تربي علي الشعور بالقوة وبالأمان طيلة حياته,ولم نكن يوما شعبا رعديدا يتلفت من ورائه في الطرقات خوف الغدر,أو شعبا فوضويا,أو قبائل أو جماعات من الرحل الذين لا وطن لهم,يلجأون إلي البلدان من أجل الاحتماء,وإنما كنا دائما وطنا يفد إليه الطالبون للحماية فنحميهم ونجيرهم!! علينا أن نفخر جميعنا بأننا استعدنا زمام أمورنا ولم يتركنا قادتنا في مهب الريح,وعلي المفسرين,والمحللين,ومستكشفي المؤامرات,والمتنبئين الكثر بيننا أن يمتنعون اليوم,وكفانا تهريجا,وأيا كان من فاز بامتلاك زمام الأمر وأحكم قبضته عليه فعلينا جميعا أن نصطف من ورائه,فلقد جربنا العيش بدون رئيس وبدون كيان واضح للدولة,وإنما مؤسسات منفصلة عن بعضها بعضا:شرطة في اتجاه,وجيش في اتجاه,ومجلس وزراء في اتجاه,وبرلمان في اتجاه,وفصائل في الشارع كل في اتجاه,وهي أيام الله لا يعيدها!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم