لم يختلق ترامب هذه الاضطرابات الظاهرة هذه الأيام فى النظام العالمي، الذى كان يبدو وكأنه مستقر منذ الحرب العالمية الثانية، وإنما يكاد دوره ينحصر فى كشف ما تواطأت على كتمانه أطراف مؤثرة فى صنع هذا النظام وفى الاستفادة منه، وكانت تحرص طوال سنوات على أن تكون الخلافات فيما بينها فى الغرف المغلقة، وأحياناً بالاكتفاء بالحسابات العملية على الأرض التى يفهمونها جميعاً، والتى تسير فى اتجاه آخر غير ما يفرضونه هم أنفسهم باسم هذا النظام على من هم أضعف. وكانت أهم إضافة لترامب هى التعجيل بإعلان ما جرى تسويف إعلانه، وكانت إضافته النوعية فى الفظاظة والعدوانية! وأما مفاجأته الحقيقية فبسبب أن أحداً لم يأخذ شعاره (أمريكا أولاً) مأخذ الجد, أو أن يكون مضمون وتجليات الشعار هكذا، أو أن تجد هذه الممارسات هذا التأييد من جهات قوية فى أمريكا، تتلاقى فيها رموز قوية من أكبر أصحاب المصالح الاقتصادية مع بعض مراكز أبحاث تعمل طوال سنوات على هامش الجماعة البحثية فى أمريكا ولا تظهر إلا فى مثل هذه الظروف، وأما الأهم فهو مساندة شعبية واضحة تنزع ناحية اليمين المتطرف، وتكره الأجانب، وتميل إلى الإحساس بمرارة أن حجم تضحيات أمريكا من أجل العالم أكبر مما يمكنهم قبوله وتحمله! وهؤلاء الأخيرون على وجه الخصوص هم من يتوجه لهم ترامب بخطابه. وهكذا، لم يكن المروق على نظام ما بعد الحرب الثانية من المضارين منه، وإنما من أكثر المستفيدين، وأما الخطر فإن رفضهم له لأنه صار عائقاً أمامهم فى سعيهم لمزيد من المكاسب! ومن المنطقى أن تتضارب مصالح أطراف الحلف القديم المستفيد بسبب مستجدات تؤجج المنافسات بين بعضهم بعضا. وكل هذا لا يعنى إلا المزيد من الطحن لمن كانوا من الخاسرين فى الأصل!. فى هذا السياق، يمكن فهم انسحابات أمريكا من منظمات واتفاقات دولية، كما يمكن تفسير إصرارها على إعادة تقدير الجمارك على الواردات، حتى ضد حلفائها القدامي، كما يمكن إدراك التعسف مع الأجانب المهاجرين..إلخ. لقد بدت نُذُر المرحلة المقبلة، ومن الصعوبة توقع الخطوات التالية التى لن يكون فى مقدور ترامب أن يسيطر عليها!. [email protected]