من أخطر وأغرب ما نُشِر مؤخراً ما قاله الأستاذ هيكل قبل أيام، بطريقته الهادئة بينما هو يعلم أن الكلام سوف يُحرِّك الكثيرين، إن الرئيس السيسى فوجئ بحجم وتعقيد مشاكل مصر بعد أن تولَّى منصب الرئاسة! واستطرد هيكل، فى حديثه لعدد من تلاميذه المُقرَّبين زاروه فى مكتبه فى مناسبة عيد ميلاده، أن السيسى مصدوم من المشكلات والتحديات التى تواجِه البلد، وأنه يشعر بالمرارة بعد إطلاله عليها. وأضاف بأن السيسى كان لديه تصورات حالمة، لكنه لم يكن يعرف طبيعة الملفات، وأنه يجب أن يتجاوز تلك الصدمة. كما أخذ هيكل على مستمعيه، أو بمعنى أدق على فئة من العاملين فى السياسة والإعلام، أنهم يُحَمِّلون السيسى ما لا يطيقه، لأنهم يتصورون أن أجهزة الدولة تعاونه وتلتفّ حوله وتُقدِّم له المشورة فى الوقت المناسب!! وتأتى الغرابة من أن الرئيس السيسى كان على رأس جهاز مخابرات قوى، وكان يأتيه على مكتبه كل صباح عدد من التقارير يُفتَرَض فيها أنها تغطى جميع مناحى الحياة فى البلاد وفى الإقليم وحول العالم، كما يُفتَرَض أن هذه التقارير هى خُلاصة جهود أجهزة وطنية وبالتعاون مع أجهزة صديقة. ومن الشائع أن ضخ المعلومات لا يتوقف إلى من يتولى مثل هذا المنصب، على مدار 24 ساعة، فى القضايا الساخنة الدائرة، وفى تطورات المشكلات المزمنة، وفى الحوادث الطارئة الكبرى، وما شابه ذلك، كما أن على مساعديه أن يُطلِعوه على كل ما هو مهم لحظة وصول الخبر. وقد نجح السيسى، بفضل بعض هذه المعلومات وبقدرته على قراءتها وتحليلها، أن يتوقع، فى طور الإعداد لمشروع تطوير قناة السويس، أن يتم تحصيل المبلغ الرهيب 64 مليار جنيه فى أقل من 10 أيام، فكان أدق من المتخصصين فى هذا المجال الذين كانوا يميلون إلى أن لا تقل المدة عن شهرين. ولكن، وبعد كل هذا، يتضح أن هناك أسراراً لم يكن يعرفها أول من كان يجب أن يعرف بحكم وظيفته ومسئولياته! وهو ما يفتح الباب واسعاً لنقاش جاد ينبغى أن يشارك فيه أوسع الدوائر الممكنة. ذلك أن تدفق المعلومات واحد من أهم سمات الدولة الحديثة، ولكن هذا الكلام يأتى ليؤكد أننا على النقيض، ندمن الكتمان وحجب المعلومات وعرقلة تدفقها، ووضع التوصيفات التى تُجرِّم تداولها، من "سرى" إلى "سرى للغاية" إلى "محظور" إلى غير ذلك، مما يضع الحواجز الهائلة أمام تطبيق حق الرأى العام فى أن يعرف أخبار بلاده، بل إن السياسيين المحترفين لا يعرفون، ولا الباحثين الأكاديميين حتى فى مستويات الدراسات العليا، ثم ها هى المعلومة الجديدة، الخطيرة الغريبة الصادمة، التى تؤكد أن رئيس أقوى جهاز مخابرات فى البلاد، هو أيضاً، تُحجَب عنه معلومات تدخل فى صميم عمله! فمن هو يا تُرى صاحب هذا النفوذ الهائل الذى يقرر مَن مِن حقه أن يعرف، وما يمكن معرفته، وما يمكن حجبه؟ ومن أين له بالحماية وهو يقترف ما يقترف من جريمة مُرَكَّبة؟ أياً ما كان الأمر، فإن الموضوع جاد لا يحتمل التسويف. خاصة وأن شعارات الثورة، وما قبلها بسنوات فى مظاهرات صاخبة فى طول البلاد وعرضها، كانت تعلو مُطالِبة بحرية الصحافة والإعلام، وبحق الرأى العام فى معرفة الأخبار، بل وبمحاكمة رموز الإعلام الذين فرضوا سيطرتهم الكاملة على أجهزة الإعلام المقروء والمسموع والمرئى وجندوها جميعاً فى خدمة رأس الدولة وعائلته وأهوائهم، وكان الظن آنذاك أن كبار المسئولين يعرفون كل شيئ وأنهم هم الذين يتخذون القرارات بفرض السرية! ولكن يتكشف الآن أن صاحب واحد من أكبر المناصب تُحجَب عنه المعلومات المهمة! بل إن واقعة كتمان المعلومات عن السيسى وهو رئيس للمخابرات لم يُفرَج عنها وفق آلية مُلزِمة للأجهزة الرسمية، أو حتى تبعاً لتقليد يحترم حق تدفق المعلومات، وإنما خرجت بمجهود صحفى عتيد يجتهد أقصى الاجتهاد لمعرفة المعلومات، ويأبى عليه ضميره أن يكتمها عن الرأى العام. وهو ما يجعلنا نواجَه بحقيقة مُرَّة ليس لها ما يبررها، وهى أنه ليس لدينا نظام يقضى بالإفراج عن الأوراق الرسمية، حتى الخاصة بالقضايا القديمة التى مرّ عليها عقود، بل إن الكتمان لا يزال مضروباً على أسرارها، برغم أنها خرجت من مجال السياسة ودخلت فى إطار التاريخ! من السهل إلقاء الإدانات جزافاً، ومن الأسهل أن تنطلق ماكينة السخرية العدمية التى لا يهمها سوى التنكيت، وهذا يشتت الجهود المخلصة الرامية إلى الإصلاح والموقنة أنه لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة تفاصيل كيف يجرى حجب المعلومات، وعلى يد من، ومن يبسط على الفاعلين حماية من المساءلة. وأما الجانب الآخر من الكارثة فى الكلام الخطير لهيكل، فهو الخاص بأجهزة الدولة التى لا تتعاون مع الرئيس الذى حصل على نحو 97 بالمئة من الأصوات فى ظرف كان التفاف الشعب حوله واضحاً للداخل والخارج! فهل يمكن أن تضرب أى أجهزة عرض الحائط بهذه الحقائق الدامغة، وتدير ظهرها للاختيار الشعبى؟ هل يمكن أن يعرف الشعب معلومة بهذه الخطورة فى غير سياق محاكمة هؤلاء على أقل تهمة ممكنة وهى التقاعس عن أداء المسئولية المنوط بهم انجازها؟ واضح أن هناك فئات وأفراداً يُصِرِّون على تجاهل الدستور والقانون، وعلى أن يفرضوا رؤيتهم على الجميع دون أى سند شرعى أو عقلى، بحجبهم للمعلومات عن أكبر الرؤوس، وبتهربهم من مسئوليات وظائفهم فى وجوب التعاون مع الرئيس المنتخب. إذا تُرِكَت هذه الوقائع دون مساءلة جادة، ودون إعلام الجمهور بالحقائق طبقاً لقواعد الشفافية المعمول بها فى عصرنا، فسوف تظل مقومات القرون الوسطى هى السائدة، خاصة أن سدنتها لا يزالون بالفعل على رأس عملهم حتى الآن فى بعض مكامن المعلومات والنفوذ. المصدوم، حقاً، فى هذه القضية هو الرأى العام المهموم بالإصلاح والذى تَكَشَّف له أن المهام العاجلة زادت بوجوب إصلاح هذا الخلل، وبشكل عاجل، بخطوات ثورية ناجزة يقوم بها الرئيس، وبتشريع ورقابة حاسمة من البرلمان الجديد.