هكذا يدور الحديث عادة عن الزيارة التاريخية الخاطفة التى قام بها الرئيس السادات إلى القدس وأذهل العالم بها. من الناس من يبارك المبادرة الشجاعة ويرى أن الرئيس استطاع بفضلها كسر الجمود، واقتطاف ثمرة العبور والانتصار، وتحرير سيناء، وإحلال السلام بين مصر وإسرائيل، وتجنيب مصر ويلات الحرب. وهناك من يلعن المبادرة وما ترتب عليها، لأن سيناء فيما يقال عادت إلى مصر منقوصة السيادة، ولأن السادات وضع كل أوراق اللعب فى يد أمريكا، وأمريكا ليست بالوسيط النزيه؛ وإسرائيل ليست بالجار الذى يؤتمن. وفريق ثالث قد يرى أن السادات كان شجاعا وحسن النية، ولكنه اضطر لتقديم تنازلات عارضها بعض مساعديه، وذلك لأنه ما دام قد بادر بمد غصن الزيتون للعدو، فلم يكن من الممكن أن يعود خاوى الوفاض، وقد عاد بشيء لعله أفضل من لا شيء، ولكنه أقل مما ينبغي. وربما كان هناك فريق رابع يرى أن اتفاقية السلام كان من الممكن رغم عيوبها أن تكون مقدمة لنهضة جديدة لو أن السادات عمل على بناء الداخل على أسس متينة بدلا من اتباع سياسة الانفتاح بغير حدود. لقد قال لينين فى ظرف مماثل: تتراجع الثورة خطوة لتقفز إلى الأمام خطوتين؟ غير أن مصر فى عصر السادات والرئيس الذى تلاه لم تقفز إلى الأمام، بل تراجعت خطوات. وكلنا نعرف الحجج والحجج المضادة، فذلك أمر مألوف فى ميدان السياسة. ومن حق الناس مناقشة المكاسب والخسائر الناجمة عن الإجراءات التى اتخذها الرئيس السادات. وحقيقة الأمر أن للقادة السياسيين دواعى خاصة تقوم على عامل المصلحة، ولا أعنى بالضرورة المصلحة الشخصية، بل أعنى المصلحة العامة، أو ما يرون أنه كذلك. إلا أن هذا الجانب البراجماتى من الموضوع يستدعى بالضرورة جانبا آخر، هو اعتبارات الأخلاق والعدالة أو ما يمليه الضمير. سئل طه حسين فى الخمسينيات من القرن الماضى عن الصلح مع إسرائيل، فقال قولته المشهورة: «لا صلح مع ظالم». ولنلاحظ أن طه حسين صاغ إجابته على شكل قاعدة عامة؛ فهو لم يقل: «رأيى هو ألا صلح مع إسرائيل» بل قال إن الصلح محظور ومنهى عنه مع ظالم. وهذه القاعدة العامة تعنى أن ليس من حقك ولا من حق أحد أن يصالح الظالمين. وكان طه حسين يتحدث إذن من وحى ضميره، ولكنه كان يدعى ضمنا أن صوت الضمير لا بد أن يعلو فى نهاية المطاف على الاعتبارات البراجماتية التى تهم الساسة. وينبغى أن نتذكر فى هذا السياق أن طه حسين هو نفسه الكاتب الذى أدان البربرية النازية، وكان ذلك أيضا بوحى من ضميره. يقول فى مقالة له عن هتلر(نشرت تحت عنوان «هتلر قال لى»، فى زهرة الشرق، 18 مارس 1940).: «لو كُشف الغطاء له [يعنى هتلر] عن ضميره لرآه أحمرَ قانيًا يقطر دمًا، ولكنه لا يعترف بالضمير، وإنما يرى الإيمان به وهمًا، والإذعان لحكمه ضعفًا، والإشفاق من لونه جنونًا. ولو كُشِف الغطاء له عن قلبه لرآه صخرة صُلبة لا يعمل فيها شىء». وهذا الكاتب الذى لم يسكت عن البربرية النازية لم يستطع أن يسكت عن الظلم الذى أوقعه الصهاينة بالفلسطينيين. فالقاعدة العامة المستوحاة من الضمير هى أن الظلم ظلم فى جميع الحالات، رغم ما قد يكون هناك من فوارق بين حالة وحالة. فالمحرقة التى أقامها هتلر لليهود لا تبرر مهما تكن فظاعتها اغتصاب فلسطين. ولمن أراد أن يشكك فى صحة ادعاء طه حسين أن يثبت أن إسرائيل لم تظلم الفلسطينيين ظلما فادحا. صحيح أنها لم تقم لهم غرف الغاز، ولكنها أخرجتهم من ديارهم، ودمرت قراهم وسبل عيشهم، وأحالت بعضهم إلى لاجئين، ووضعت البعض الآخر فى تبعية دائمة أو تحت حصار دائم إلى أن يسقطوا حقهم فى المقاومة سلمية كانت أو غير سلمية، ويرضخوا لمطالبها. ولنعد إلى المسألة الأساسية. أليس فى التطبيع مع إسرائيل مصالحة لظالم، ومزيد من الظلم لشعب يرزح تحت الاحتلال والقهر؟ يستطيع القائد السياسى كما قلت أن يتحايل ويناور بحكم حرصه على مصلحة البلد (أو ما يعتقد أنه كذلك)، فينزل على حكم الضرورة ويقدم التنازلات مؤلمة وغير مؤلمة. ولكن للضمير سلطة تعلو اعتبارات البراجماتية السياسية؟ يحدث أحيانا أن يغفو الضمير أو يتم تخديره، ولكنه لا يلبث أن يستيقظ ويرفع صوته لأنه يعبر عن العدل ورفض الظلم. وقد أصبحنا اليوم نسمع الصوت عاليا. فالفلسطينيون يتساقطون ما بين قتيل وجريح أمام السياج الذى أقامته إسرائيل لتقصيهم وتحاصرهم. والضمير إذ يستيقظ على هذا النحو لا يتمتم ولا يغمغم، بل يذكر بجذور المشكلات ويفصح عنها. ومن ثم كانت مسيرة العودة كما تسمي. فالعودة التى ينادى بها أمام السياج تعنى حق الفلسطينيين فى العودة إلى أراضيهم التى تمتد من النهر إلى البحر. وبذلك تعود القضية إلى المربع الأول، قضية شعب اغتصبت أرضه ولا مناص من استردادها كاملة. ونحن الآن أمام مشهد تاريخى تتكشف فيه الحقائق الأساسية للمشكلة الفلسطينية. ومن الممكن أن نصوغ هذه الحقائق كما يلي. لقد كان العرب على حق عندما رفضوا قرار التقسيم. وهم عندما وافقوا على حل الدولتين (وهو نسخة جديدة من قرار التقسيم) أقروا الظلم على مضض لأن ميزان القوى ليس فى صالحهم. إلا أن إسرائيل فى المقابل لا تقنع بهذا الظلم الجزئي، وتعمل فى دأب على التهام أرض فلسطين بأكملها، وهو أمر مفهوم. فالمغتصب لا يهنأ له نوم إلا إذا سيطر على كل ما اغتصب. ولكن هذا التوسع فى الظلم يجد ما يعارضه فى مسيرة العودة التى تعنى حق الفلسطينيين فى أرضهم كاملة بعد أن كانوا يرضون بأنصاف الحلول. وهكذا تتكشف الحقائق ويتضح مغزى القصة بكاملها. فليس ثمة مجال إلا لدولة واحدة . فإما أن تقوم على الفصل العنصرى (وهو ما يحدث اليوم بفضل التوسع الإسرائيلي)، وإما أن يعيش فيها الجميع على قدم المساواة، وعندئذ فقط يتحقق العدل. لمزيد من مقالات ◀ عبدالرشيد محمودى