فى الثمانينيات من القرن الماضى وجدت فى المكتبة الوطنية بباريس عددا قديما من مجلة Images du Mond الفرنسية، وهو العدد 46 الصادر فى 20 نوفمبر 1945. وكان هذا العدد يتضمن تقريرا أثار اهتمامى لأكثر من سبب. فقد كان عن مصر، وكان فى مجمله عرضا لوجهة النظر العربية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وكانت تتصدره مقدمة خصصت لطه حسين ونقلت عنه حديثا عجيبا قال فيه: «لقد انتهت الحرب بالقنبلة النووية وخلفت قنبلة موقوتة هى: فلسطين». ومن العجيب أيضا أن المجلة أبرزت تلك العبارة فاتخذت منها عنوانا للتقرير، فكأنما أرادت لها ما أراده قائلها: أن تكون نبوءة وناقوس خطر وتحذيرا. من حسن الحظ أن التقرير أورد الجزء المخصص لطه حسين كاملا، وترجمة فرنسية لرسالة من المفترض أن الملك عبد العزيز آل سعود وجهها إلى الرئيس الأمريكى تيودور روزفلت، وذلك بالإضافة إلى رد هذا الأخير على رسالة العاهل السعودى. ولهذه الوثيقة أهمية تاريخية أرجو أن يكون أهل الاختصاص من الباحثين والساسة قد تنبهوا إليها، وبخاصة فى الوقت الحاضر حيث يدور الحديث عما يسمى «صفقة القرن». فهناك رئيس أمريكى آخر رأى مؤخرا أن من حقه أن يهب القدس العربية عاصمة لدولة إسرائيل، بينما رأى العاهل السعودى فى رسالته تلك أن فلسطين كانت أرض الكنعانيين (أجداد الفلسطينيين) منذ آلاف السنين، وأن اليهود وفدوا إليها من العراق فى وقت لاحق. وخلاصة القول هى إن الملك عبدالعزيز حاول أن يدلل على أن فلسطين كانت وما زالت وينبغى أن تبقى عربية. وذلك على وجه التحديد هو موقف طه حسين كما عرضته فى مكان آخر (انظر كتاب طه حسين، الأوراق المجهولة، 2016، ص 26 وص 64). وهو رأى يذكر بناقوس الخطر الذى دقه غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما تحدث عن فلسطين بوصفها قنبلة موقوتة، وعن المشكلة الفلسطينية بوصفها كابوسا خلقه الغرب. ويأتى بنا ذلك إلى الجزء المخصص لطه حسين فى تقرير المجلة الفرنسية عن مصر. ويستدل منه أن كاتب التقرير أجرى مقابلة مع طه حسين، فهو يقول: «إن قضاء ساعة مع طه حسين يعنى القيام بجولة حول العالم». وهو يقدم طه حسين إلى القراء بمعلومات لا داعى للتوقف عندها طويلا لأنها مألوفة لدينا. إلا أن الكاتب لم يورد من تفاصيل الجولة التى قام بها مع طه حسين حول العالم إلا قولين عن فلسطين. وهو ينقل أولهما على نحو غير مباشر فيقول: «طه حسين يعرب عن استيائه من أن القوى الكبرى لم تستطع حل المشكلة اليهودية». ثم ينقل عن طه حسين نص عبارته التى تنذر بالخطر الناجم عن هذا العجز والتى وضعت عنوانا للتقرير. وهى عبارة عجيبة وينبغى التوقف عندها طويلا. فقد قيلت كما رأينا غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، أى قبل سنوات من إنشاء دولة إسرائيل فى 1948 ووقوع الانفجار الأول الناجم عن القنبلة الموقوتة على شكل الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. وأرجو ألا أكون مخطئا إذا قلت إن أحدا غير طه حسين لم يطلق مثل تلك النبوءة، وذلك التحذير فى تلك الفترة المبكرة من تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى. ولقد كانت نبوءة طه حسين وما زالت بعيدة المدى وصادقة حتى اليوم. وينبغى أن نتنبه أولا إلى أن تشبيه فلسطين بالقنبلة الموقوتة وفقا للعبارة العربية لا يفى بالمعنى المراد كما عبر عنه طه بالفرنسية (bombe à retardement). فالقنبلة فى هذه الحالة الأخيرة موقوتة بالفعل، ولكنها توقت بحيث لا تظهر قوتها التفجيرية إلا فى وقت متأخر أو لاحق. وطه حسين عاش ليشهد عددا من الانفجارات الناجمة عن القنبلة، ومن بينها تلك الحرب العربية الإسرائيلية الأولى وما تلاها: حرب السويس (1956)، وحرب الهزيمة الكبرى (يونيو 1967)، وهلم جرا إلى أن شاهد قبل أن يغمض عينيه فى سباته الأخير بدايات حرب العبور وتدمير خط بارليف، و«المفرمة» التى أعدها الجيش المصرى للغزاة (1973). ونحن أبناء اليوم نعلم أن سلسلة الانفجارات التى خلفتها القنبلة الفلسطينية لم تصل إلى نهايتها بعد. وقد كان طه محقا تماما عندما تحدث عن فلسطين بوصفها قنبلة، وعن المشكلة الفلسطينية بوصفها كابوسا. فهنك الآن دولة تحتل أرض فلسطين وتمتلك مئات القنابل النووية. ونرى أيضا أحد المشاهد التى تكشفت الأزمة عنها مؤخرا: مشهد الفلسطينيين الغزاويين يتظاهرون فى رحلة العودة أمام السور الذى أقامته إسرائيل لكى تتحصن خلفه. ومن ذلك مشهد القناص الإسرائيلى الذى يبتهج لأنه أصاب صدرا فلسطينيا مجردا من السلاح والقنابل والحجارة، اللهم إلا طائرات من ورق. ولكن هذه الطيارات تصيب القناص بالرعب فيطلق الرصاص. وثمة على وجه الإجمال مذبحة معدة للفلسطينيين. لم يمتد العمر بطه لكى يرى هذه المشاهد. ولكن العبارة البليغة التى قالها كانت تحمل فى طياتها كل ذلك. وليس لنا أن نضيف إليها إلا القليل. ومن ذلك أن خوف القناص المغتصب له ما يبرره. فلا تفسير لرعبه إلا أنه يعلم فى قرارة نفسه أن الأسوار لا تبنى إلا لكى تهدم؛ فهكذا سقط جدار برلين، وهكذا سقط خط بارليف. ومن الجدير بالذكر أيضا أن طه حسين ظل ثابتا على موقفه من القضية الفلسطينية طيلة حياته. فهو نفسه من قال عن الصلح مع إسرائيل: «إن الصلح مع الظالمين إجرام ما دام ظلمهم قائما». (1956). ومعنى ذلك أنه كان يقف على طرف نقيض من المهرولين والمطبعين. إلا أنه كان من ناحية أخرى معاديا على طول الخط لهتلر والنازية، ومناصرا بالضرورة لضحاياهما من اليهود. ولم يكن يجد غضاضة فى التعاون صراحة، وعلى قدم المساواة مع مواطنيه من اليهود المصريين. لمزيد من مقالات ◀ عبد الرشيد محمودى