مئات القرون التى عاشها الإنسان قبل اختراع الكتابة يطلق عليها «ما قبل التاريخ» رغم أن هذه الفترة مليئة بالإنجازات الكبرى مثل اكتشاف الزراعة والتعدين وتأسيس المجتمعات البشرية. وما إن اخترع الإنسان الكتابة، وبدأ التدوين حتى دخلت البشرية عصر التاريخ. فمع تدوين الأحداث صار من السهل على الإنسان أن يعرف ما حدث فى الماضي. أما لماذا حدث، وكيف حدث، فهذا ظل حتى اليوم موضوعاً لحيرة البشر وعلى رأسهم المؤرخون. مع التوسعات العسكرية للدول ثم انحسارها، وازدهار الحضارات ثم انهيارها ساد فى البداية انطباع عن التاريخ بأنه قدر محتوم وقوة عمياء لا سبيل لفهم المنطق الذى يحركها. وقد جاءت الملاحم الكبرى مثل الإلياذة والأوديسا لتعبر عن هذه النظرة. ومع ظهور الأديان السماوية، جاء اعتقاد بأن العناية الإلهية هى التى تحرك التاريخ وعلى نحو ما يرى القديس أوغسطين هى التى رسمت لكل المجتمعات البشرية ماضيها ومستقبلها، وانطلاقاً من هذه النظرة بدأ البحث عن الحكمة الإلهية الكامنة خلف أحداث التاريخ فاعتبر انهيار الحضارات نوعا من العقاب الإلهى على سقوط الشعب فى الرذيلة، أما الشعب الذى يتمسك بالفضيلة فسوف تظل حضارته مزدهرة ومجده باقياً. سعى ابن خلدون ومن بعده فيكو إلى البحث عن سبب للتغيرات التاريخية فى داخل المجتمعات البشرية نفسها. واستبعدا بذلك فكرة القوة التى تحرك التاريخ من خارج المجتمعات البشرية والعالم الدنيوي، فقدما أول نظرة علمانية أى دنيوية للتاريخ. وعلى نفس المنوال فسر هيجل التاريخ بأنه تجل لتطور العقل المطلق، واعتبر الزمن هو المجال الذى يحقق التاريخ فيه غايته، وحدد لكل فترة تاريخية أمة هى التى تعبر عن معنى التاريخ فى هذه الفترة ويكون من حقها بالتالى قيادة باقى الأمم. ورسم للتاريخ مساراً يمكن من خلال رصده أن نعرف ماهى الشعوب المتقدمة والشعوب الأخرى المتخلفة. ورغم تباين هذه النظرات ما بين دينية وعلمانية فإنها تتفق جميعاً فى أن إرادة الإنسان لا تتحكم فى توجيه مسار التاريخ. فنحن قد نعتقد أن التاريخ ليس تعبيرا عن قوة عمياء ولكنه فى النهاية هو محصلة لأفعال البشر لكن لا سبيل أمام الإنسان للتحكم فيه وتوجيهه. وحتى عندما قال ماركس إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم أضاف بعدها ولكن ذلك ليس حسب رغبتهم . وفى موقف آخر قال: إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يعرفون ماذا يصنعون. تختلف الإرادة عن الرغبة فى أنها تتضمن تأملاً ثم اختيارا ثم فعلاً. ولكننا لا نعرف مدى تأثير أفعالنا الإرادية فى مجرى التاريخ. ومع ذلك حملت الحداثة والثورة الصناعية، خاصة فى القرن التاسع عشر، شعوراً بأن البشر يحرزون تقدماً فى فهم منطق التاريخ، وبالتالى يستطيعون التحكم فيه وتوجيهه، والأخذ بيده لمساعدته فى الوصول إلى غايته. وشاع من وقتها فى الفكر المعاصر استخدام تعبيرات مثل: تسريع إيقاع التاريخ، و صناعة المستقبل، وحرق المراحل التاريخية، وهى تعبيرات توحى بأنه اصبح من الممكن التحكم فى مسار التاريخ. وتنطلق هذه النظرة من الاعتقاد بأن الإرادة يمكن أن تتدخل لتسيير التاريخ لمصلحة الإنسان. ولكن هل تدخل إرادة البشر فى التاريخ أمر مفيد؟ الفيلسوف الألمانى مارتن هايدجر لا يرى ذلك. فالتاريخ السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعي، كلها تواريخ تتدخل فيها الإرادة، فى صورة إعلان حرب أو معاهدة سلام أو تأميم أو خصخصة أو تهجير سكان أو تنظيم النسل. التاريخ الوحيد الذى لا تتدخل فيه إرادة البشر هو تاريخ الفكر، فالإنسان لا يحدد بإرادته ماهى الأفكار التى ستشغله، ولكن هذه الأفكار هى التى تفرض نفسها، وتلح عليه حتى وإن حاول أن ينشغل عنها. ولذلك اعتبر أن تاريخ الفكر هو التاريخ الوحيد الذى يعبر عن حقيقة الوجود. ومن قبله بأكثر من مائة عام كان الفيلسوف شوبنهاور يرى أن التاريخ لا يأتى بجديد، فنحن نعايش دائما نفس الأحداث، التغيير فقط فى الطريقة التى تتم بها. ورغم ذلك أجرى نفس القسمة. فهو يخبرنا بأنه يوجد تاريخان: التاريخ السياسى وتاريخ الأدب والفن. الأول هو تاريخ الإرادة، والثانى هو تاريخ العقل. التاريخ الأول مقلق بل ورهيب. فنحن فى كل مكان نرى القهر والمؤامرات والقتل والفظائع وكلها ناجمة عن تدخل الإرادة فى التاريخ. التاريخ الثانى هو على العكس مرح ويبعث على الرضا. ورغم التباين بين التاريخين هناك قاعدة أساسية تجمع بينهما وهى الفلسفة. فالرأى هو الذى يحكم العالم وهو الذى يحدد الإبداع والتلقي. ولهذا فالفلسفة، من وجه نظره، هى القوى المادية الأكثر قدرة لكنها لا تمارس فعلها إلا ببطء شديد. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث