اسمه الكامل جورج شحاتة قنواتى (1905-1994). راهب من سلك الرهبان الدومينيكان. ولد فى الإسكندرية، وتخصص فى دراسة الصيدلة، ولكنه صار مرجعا وحجة فى دراسة الفلسفة وعلم الكلام الإسلاميين. وكان مقره الدائم فى دير الآباء الدومينيكان فى شارع مصنع الطرابيش بحى العباسية. فقد وجدت فى مكتبتى كتابا تذكاريا يضم مجموعة من المقالات والشهادات التى كتبها بالفرنسية والعربية عدد من أصدقاء العالم الراحل ومحبيه. عثرت على الكتاب بعد نسيان. فلقد أهديت نسخة منه فى أثناء زيارة قمت بها إلى الدير فى العام الماضي، ووضعته جانبا وغفلت عنه وتاه بين الكتب والأوراق المتراكمة. كيف حدث ذلك ولى سابق عهد بدير الآباء الدومينيكان وبرئيسه الذى رحل الذى عرفته فى الخمسينيات من القرن الماضي؟ لاحظت فى أثناء زيارتى للدير فى العام الماضى التغيرات الشاملة التى طرأت على منطقة مصنع الطرابيش وعلى مبنى الدير. وكانت التغيرات فى هذه الحالة الأخيرة تبعث على السرور. فالدير فى حالة ممتازة من الازدهار. توسع على حساب الرمال التى كانت تحيط به، وأصبحت له حديقة جميلة مترامية الأطراف. واستقبلنى أهل الدير بحفاوة وترحاب وخدمات مكتبية ممتازة. ولا شك لدى أنهم يحسنون استقبال كل من يقصدهم من الباحثين، ولكن يبدو أننى حظيت بمعاملة خاصة عندما عرفوا أننى كنت على علاقة برئيسهم الراحل. ومن ثم كان الكتاب الهدية. وكان مراد وهبة هو من هدانى فى الأصل إلى الأب قنواتي. كنت حينذاك أدرس الفلسفة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة. وكنت مكلفا بكتابة بحث عن نظرية العقل الفعال عند الفلاسفة المسلمين. ونظرا لأن مكتبة الدير كانت - وما زالت - تزخر بالمراجع اللازمة لدراسة الفلسفة الإسلامية، ولأن رئيس الدير كان معروفا بعلمه وسخائه فى مساعدة الطلاب والباحثين، فقد أشار على مراد وهبة بأن أذهب بتوصية منه إلى قنواتي. ورحب بى الرجل عندما لقيته وعرفته بما أريد. وتحدد على الفور برنامج العمل. فكنت أذهب إلى الدير فى العاشرة صباحا. فيستقبلنى الأب قنواتي، ويحمل إلى ما أطلبه أو يقترحه من مراجع فى غرفة للمطالعة خصصها لى وحدي. ثم ينصرف لإدارة شئون الدير أو للصلاة (كنت فى غرفتى أسمع تراتيل وترانيم الرهبان الذين كانوا جميعهم من الباحثين والكتاب). وقد يطل على قنواتى بين حين وآخر ليرى ما إذا كنت فى حاجة إليه. ثم يعود ساعة انصرافى عصرا لكى يجيب عن أسئلتي، إذا كانت لدى أسئلة. وعلى هذا النحو استمر إشرافه على بحثى إلى أن انتهيت من كتابته. وكانت تلك تجربة فريدة تركت أثارا عميقة فى حياتى كطالب. وكانت لى سلسلة أخرى من الزيارات إلى الدير واللقاءات مع الأب قنواتي. كان ذلك فى سنة 1960. كنت قد تخرجت، ولكنى كنت مكلفا بترجمة الصفحات المائة الأولى من «الموسوعة الفلسفية المختصرة» تحت إشراف الدكتور زكى نجيب محمود، وذلك فى إطار مشروع الألف كتاب. وذهبت إلى قنواتى أطلب مساعدته فى ترجمة بعض العبارات والمصطلحات فى المقالات المخصصة لأرسطو، والقديس توماس الأكوينى، والقديس أوغسطين. وهنا أتوقف لأقول إن قنواتى كان يبذل المساعدة لكل من يطلبها فى مجال دراسة الفلسفة الإسلامية أو الفلسفة اليونانية أو الفلسفة المسيحية فى العصر الوسيط. فقد كان الرجل الصيدلانى أصلا متبحرا فى تلك المجالات، وكريما لكل من يقصده، لا فارق عنده فى ذلك بين طالب أو أستاذ. وأنا أعلم أن قائمة الذين قصدوه وساعدهم طويلة. ولكن يكفى أن أذكر مثلا واحدا نظرا لأهميته، وهو أنه راجع على الأصل اليونانى الترجمة التى نقلها عن الإنجليزية المرحوم أحمد فؤاد الأهوانى لكتاب النفس لأرسطو. ثم حان موعد سفرى إلى انجلترا لدراسة الفلسفة فى سبتمبر سنة 1961، فتوجهت إلى الدير لأودع الأب قنواتى ولأشكره. وحدثته عما كنت بشأنه، وسألته أن ينصحني. فقال: «لا تحبس نفسك فى غرفة بين الكتب». وأدهشنى قوله لأننى لم أتوقعه من راهب. ولا أذكر الآن هل عبرت عن دهشتي، أم أنه قرأ ما أعنيه على وجهي. ولكن جوابه كان واضحا على أى حال:اخرج إلى الحياة واختلط بالناس. وهذه هى نصيحتي. وكانت تلك نصيحة قيمة، وإن لم أدرك مغزاها كاملا إلا بمرور الزمن. تذكرت أولا أن الرجل ربما أراد أن يضرب لى مثلا بنفسه. فلقد كان وهو الراهب لا يكف عن الخروج إلى الحياة وممارسة النشاط فى الدنيا، فكان كما قلت يساعد كل من يقصده، وكان يلقى المحاضرات ويشارك فى الندوات والمؤتمرات وشتى المناسبات العلمية فى جميع أنحاء العالم. وأدركت أن ذلك النشاط لم يكن أمرا عارضا أو نابعا من اختياراته الشخصية فحسب. بل كان أيضا جزءا من واجبه ورسالته. ثم إننى تعلمت فيما بعد أن الكتب وحدها لا تكفى رغم ما فى حياة القراءة والبحث من متعة وفائدة. الحديث عن قنواتى المصرى ابن الإسكندرية الذى كان يجيد اليونانية القديمة واللاتينية ويستعين بهما فى دراسة الفلسفة وعلم الكلام الإسلاميين, ذكرنى فى الواقع بالعصر الذهبى لترجمة أعمال الفلاسفة والعلماء اليونانيين فى بغداد فى العصر العباسي. كان المسلمون حينذاك يستعينون بمترجمين من النصارى السريان، وكان هؤلاء وسطاء لا غنى عنهم بين الثقافتين: العربية واليونانية. ولولاهم لما كانت هناك ثقافة فلسفية وعلمية عربية، ولما أمكن انتقال هذا التراث العظيم إلى أوروبا فيما بعد. كما ذكرنى قنواتى بتعاون الباحثين من أهل الأديان السماوية الثلاثة فى طليلطة وصقلية على نقل أعمال الفلاسفة العرب والمسلمين إلى أوروبا فى القرن الثالث عشر. كان قنواتى مثلا فريدا ولكن ينبغى أن يحتذى به. فمن المؤسف أننا ما زلنا نعجز عن قراءة فلاسفة اليونان بلا وسيط، أى عن طريق ترجمة إنجليزية أو فرنسية. وكأن التراث اليونانى يعنى الغربيين فى المقام الأول، ولا يعنينا نحن إلا فى المقام الثاني. وكأننا لم ندرك بعد أن الفلسفة الإسلامية لا تفهم حق الفهم إلا إذا استندت إلى دراسة معمقة للفلسفة اليونانية. وذلك ما أدركه طه حسين - صاحب العقل النيّر - عندما رأى ضرورة الاهتمام بدراسة اليونانية واللاتينية والفارسية. لمزيد من مقالات ◀ عبد الرشيد محمودى