يسعى المؤلف الدكتور محمد عبد المنعم، الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، في كتابه "نخبة القوة في القرن الحادي والعشرين"، إلى الوقوف على طبيعة القوى المتنفذة على مستوى العالم، وما قامت به من أدوار طوال ما يزيد عن ربع قرن من الزمن وما تزال، مدفوعة في ذلك بتوجهاتها الرأسمالية متعدية الجنسية، ومعتمدة على ما تحوزه من مقومات القوة الأكثر حسما، رأس المال، السلطة "القوة المشرعنة"، والأيديولوجيا. هذه القوى التي تولدت و تشكلت خصائصها من داخل النظام الرأسمالي العالمي، ومن خلال تفاعلات البنية الطبقية في مجتمعات المركز، وذلك على مدى عقود عديدة، بدأت خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت فاعلة حتى شهدت نقلتها النوعية في نهايات ثمانينات وأوائل تسعينات القرن العشرين، بسقوط التجربة السوفيتية، وبزوغ عملية العولمة الرأسمالية متعدية الجنسية. هذه القوى الفاعلة الرأسمالية التي لا تقتصر تشكيلتها على المكون الاقتصادي المتمثل بوضوح في نخبة رجال الأعمال، بل إنها تضم إلى جانبها نخبة السلطة السياسية والعسكرية، فضلا عن مكون آخر بالغ الخطورة والأهمية، يتمثل في نخبة المعرفة، بكافة فروعها، وخاصة الإستراتيجية و المستقبلية. لقد قدم عالم الاجتماع الأمريكي الشهير رايت ميلز، دراسته الرائدة عن نخبة القوة The Power Elite، في خمسينات القرن الماضي، ليرصد ويحلل من خلالها القوى الحاكمة والمتنفذة في المجتمع الأمريكي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومع التحول الرأسمالي الكوكبي نجد تلك النخبة، وقد تمددت واستنسخت أدوارها وصارت تمثل هيمنتها على نطاق متعدي للجنسية، حتى بات من الممكن تبين حالة التبلور لنخبة قوة رأسمالية على نطاق عالمي. تلك النخبة، التي بدأت مركزية في حضورها الأبرز في العواصم الرأسمالية الكلاسيكية، واشنطن، لندن، برلين، باريس، جينيف، روما، وطوكيو. لتضم لاحقا عواصم أخرى مثل سول، بكين، موسكو، ونيودلهي. إن نادي النخبة غير مغلق أمام الأعضاء الجدد الذين يسعون إلى الالتحاق، إلا أن معايير وشروط هذا الالتحاق تعد من الصعوبة بمكان، فمنتدى نخبة القوة يتيح لأعضائه المشاركة في حكم العالم، وإن يكن بدرجات ومستويات متفاوتة بين أعضائه، فمنهم من يمتلك مقومات القوة في أعلى مستوياتها، بما يؤهله لفرض هيمنته عالميا، اقتصاديا وسياسيا ومعرفيا، ومنهم من لا يطمح إلا في فرض هذه الهيمنة على نطاق إقليمي، دون تورط في قضايا ومعضلات تتجاوز هذا النطاق، قد تستنزف طاقاته وقدراته، وتدخله في مواجهات ومعارك لا يريدها، وهو على غير اقتناع بمصالحه المحققة من وراء الاشتباك معها بفاعلية، خاصة إذا كان هذا التدخل يحمل في طياته مخالفة واضحة لتوجهات ومصالح قوى أخرى عالمية، قد تتسبب المواجهات الصريحة في تضاد معها، في خسائر إستراتيجية غير محسوبة العواقب. ونظرا لأن نخبة القوة العالمية هذه تمر في الوقت الراهن، بعملية إعادة هيكلة نظرا لالتحاق أعضاء جدد، أتوا من خلفيات متباينة، وقد تكون مغايرة تماما لما تأسست عليه النخبة الرأسمالية الكلاسيكية، نخبة ما بعد الحرب الثانية، إضافة إلى ما مر بالعالم من أزمة تعد هي الأخطر على النظام الرأسمالي العالمي في العام 2008، ولا تزال آثارها فاعلة حتى الآن، فإننا قد نعد شهودا على مرحلة تاريخية للصراع الحاد على مناطق النفوذ على مستوى كوكبي، تتحدد بناء على نتائجه مراكز القوة الجديدة داخل منتدى نخبة الرأسمالية الكوكبية لعقود قادمة. غير أن ما يمايز هذا الصراع الاستراتيجي عن سابقه الذي وسم فترة ما بعد الحرب الثانية، أن الصراع الراهن ينطلق ونخبه الحاكمة تتبنى أيديولوجيا تكاد أن تكون واحدة، هي الأيديولوجيا الرأسمالية، فليس الصراع هنا بين إيديولوجيتين متعارضتين، اشتراكية ورأسمالية، ومن هنا تأتى المفارقة، ففرض الأيديولوجيا الرأسمالية بنزعتها "النيو ليبرالية" على العالم أجمع أتى بما لا تشتهى سفن نخبة القوة الرأسمالية الكلاسيكية، فقد حدثت المفاجأة، تلقت قوى كبرى، لم تكن ضمن تشكيلة نخبة القوة الرأسمالية التقليدية. إن ما يطرحه هذا المؤلف، من تحليل ينصب على مقومات قوة النخبة الرأسمالية متعدية الجنسية، والتي حددناها في رأس المال، السلطة، والأيديولوجيا، لا يقصر هذه المقومات الثلاثة في هيئتها المعلنة المشروعة، بل يحاجج بأن وجهها الآخر، الموازي وغير المشروع، لابد وأن يتم الانتباه إليه بوصفه جزءا لا يتجزأ من المنظومة الرأسمالية الكوكبية. وأن وقتا من التاريخ لم تبارح هذه النخبة استخدامه واللجوء إليه، سواء في فترات الهدوء النسبي الذي قد يخبره العالم في النادر، أو بالأخص فترات الصراع، وهى الفترات الغالبة والتي لا يكاد يخلو منها تاريخ الرأسمالية. تأتي أهمية هذا الكتاب، فيما يخلص إليه المؤلف، من أن استمرار احتكار العالم في قبضة نخبة قوة رأسمالية، سيفضي إلى مزيد من الاضطراب والصراع والعنف حول العالم، في حين أن البديل لهذا النظام الاحتكاري النخبوي ينضج على مهل، في هيئة حركات وتكتلات بازغة هجرت المقولات القديمة والسرديات الكبرى، لتمارس على الأرض حراكا يؤسس لعالم جديد، قائم على ديمقراطية تشاركية، ديمقراطية تطالب بالعدالة الاجتماعية، والتخلي عن احتكار رأس المال والسلطة والمعرفة، وعن هذا الطريق تبزغ مفاهيم ومقولات وكيانات تعيد التوازن بين الإنسان ومجتمعه، بل وكونه الشاسع، ليعود هذا الإنسان مرة أخرى إلى إنسانيته التي افقده إياها مجتمع الصراع والمخاطرة. أخيرا، ثمة تساؤل مهم للغاية في هذا الصدد، وهو كيف تمارس النخبة الرأسمالية متعدية الجنسية قوتها بوجهيها: المشروع وغير المشروع في الهيمنة على العالم وإخضاعه؟ ومحاولة إعادة إنتاجه وفقا لشروطها في الاحتكار الرأسمالي، والمتراكمة، والربح، وبسط النفوذ؟. أيضا محاولة طرح البديل الديمقراطي، الذي يفهم الديمقراطية بوصفها مشاركة في القوة. ثم كيف تكون الفرصة متاحة بعدالة أمام الجميع للوصول إلى مصادر القوة الثلاث، بديلا لحالة الاستبعاد الهيكلي، والصراع اللا متكافي في ظل نظام رأسمالي لا ديمقراطي، برغم الزعم بديمقراطيته؟! لمزيد من مقالات إبراهيم النجار;