بعد نهاية الحرب الباردة تعلقت آمال الجميع بسلام موعود لم يتحقق، وظل الناس يعانون حروبًا وانقلابات وانعدما للتسامح وكل أنواع الأصولية: دينية وعنصرية واستعمارية. كما أن فضائح شبكات التجسس على المواطنين قوت من مشاعر الاستخفاف بالمؤسسات المزعوم أنها ديمقراطية وبسوء أعمالها وتأكيد أننا نحيا فى فترة أفول الديمقراطية. وملأت فراغ ما كان يسمى المنظومة الاشتراكية أشياء مختلفة فى بقاع مختلفة من العالم منها الدين، وليس الإسلام وحده؛ فإحصائية نمو الدين فى العالم الغربى درامية. وقد شهدنا صعود امبراطورية كوكبية ذات سلطة لم يسبق لها مثيل هى الولاياتالمتحدة. وتلك الامبراطورية لا يمكن الآن تحديها عسكريًا، كما تسيطر على سياسة العولمة، حتى على سياسة البلاد التى تعاملها كأعداء. فالمهم الآن ليست المبادئ بل مصالح القوة المسيطرة على العالم. ولم يعرف العالم مثل قوة هذه الامبراطورية الأمريكية من قبل، ومن غير المحتمل أن توجد مثلها من جديد، فالولاياتالمتحدة موقع التنمية الاقتصادية الأحدث الملحوظة. ثمة جدال منتشر حول مسألة إن كانت الامبراطورية الأمريكية تسير نحو الانهيار. ويرى باحثون أن ذلك تفكير غير موضوعي، تفكير إشباع الأمنية. حقا لقد كان للامبراطورية الأمريكية نكسات، فقد ظن بعض المفكرين أن هزيمة فيتنام فى 1975 حاسمة، ولكنها لم تكن كذلك. ولم تشهد الولاياتالمتحدة نكسات أخرى على هذا المستوى منذ ذلك الوقت، وتظل شديدة الاستعصاء على الهجوم وإن عانت نكسات سياسية وإيديولوجية على نطاق شبه القارة فى أمريكا الجنوبية. فقد بينت سلسلة الانتصارات الانتخابية للأحزاب اليسارية فى فنزويلا وإكوادور وبوليفيا أن هناك بديلاً ضمن الرأسمالية نفسها، فلم ترفض أى واحدة من هذه الحكومات النظام الرأسمالي، ويصدق هذا على الأحزاب الصاعدة حديثًا فى أوروبا فى اليونان أو إسبانيا، فهى لا تقدم تحديا نظاميًا للرأسمالية، والإصلاحات المقترحة تمكن مقارنتها بسياسات قدمها آتلى فى بريطانيا بعد 1945. وبرامج أحزاب أمريكا الجنوبية اليسارية على سبيل المثال اشتراكية ديمقراطية مقترنة بحشد جماهيري. ولكن الإصلاحات الاشتراكية الديمقراطية صارت لا تحتمل من جانب رأس المال العولمى الذى لا يسمح بأى تحد للنظام. وفى العالم العربى كانت الحرب على العراق من أشد الأعمال تخريبًا فى العصر الحديث بل أشد وطأة من هيروشيما ونجازاكى حيث تم هناك الاحتفاظ بالهياكل الاجتماعية والسياسية للدولة فقد تم الإبقاء عليها لمواجهة عدو آخر هو الشيوعية. ولكن العراق عومل كما لم يعامل بلد آخر فقد نزع من البلد كل ما هو حديث، خدمات التعليم والعلاج وسلمت السلطة من جانب الغرب لأحزاب كهنوتية شيعية عمدت إلى حمامات دم انتقامية. لقد قوى الاحتلال أولئك الذين ظن أنه يدمرهم ودمرت الحرب أفغانستان وأدت إلى مزيد من عدم استقرار باكستان، وهاتان الحربان لم تكونا بفائدة ملحوظة، ولكنهما نجحتا فى بث الفرقة فى العالم الإسلامى والعربى مهما يكن ذلك غير مقصود. وكان هناك تطهير عرقى فى بغداد حيث سلك الأمريكان كما لو كان كل السنة أنصارًا لصدام على الرغم من أن كثيرين منهم سجنوا فى حكمه، ولكن ذلك التصلب أساء إلى القومية العربية طويلاً، وأدى إلى ظهور جماعات إرهابية تهدد الغرب نفسه. وتظل اسرائيل القوة الأكثر أهمية للولايات المتحدة وهى تتمدد بينما ينهزم الفلسطينيون. ودول عربية عديدة مخربة مثل العراق وسوريا واليمن ويستمر التفسخ فى الشرق الأوسط. أما فى أوروبا فالولاياتالمتحدة مسيطرة على عدة مستويات وخصوصًا المستوى العسكري. وصارت بريطانيا شبه تابعة بعد الحرب العالمية الثانية: وأوروبا مكرسة لمصالح رجال المصارف دون رؤية اجتماعية تترك نظام الليبرالية الجديدة دون تحد. وهناك صعود الصين حيث حققت رأسماليتها مكاسب هائلة وتتبادل الاقتصادات الصينيةوالأمريكية الاعتماد بوضوح مع تقدم الأمريكان، وثمة استثمار أجنبى ضخم فى الصين. ومن البلاهة التفكير فى أن الصين الصاعدة ستحل محل الولاياتالمتحدة اقتصاديًا وسياسيًا وإيديولوجيًا وعسكريًا. وماذا ستكون خاتمة كوابيس هذا القرن؟ يبين بعض المفكرين ومن أبرزهم طارق أن هناك حاجة لبنية بديلة للاتحاد الأوروبى تتطلب المزيد من الديمقراطية فى كل مرحلة عند المستوى المحلى ومستوى المدينة وعلى المستوى القومى والأوروبي، وأن هناك حاجة إلى جهد مشترك للعثور على بديل لنظام الليبرالية الجديدة. وقد رأينا بدايات مثل هذا الجهد فى اليونان وإسبانيا ويمكن انتشاره. والكثيرون فى شرق أوروبا يشعرون بالحنين إلى المجتمعات التى وجدت قبل سقوط الاتحاد السوفيتي. فالعالم مختلط مرتبك فاقد للمنطق ولكن مشكلاته لا تتغير، بل تأخذ أشكالاً جديدة. فالهوة بين الأثرياء والفقراء تزداد ضخامة بحيث صارت لا تحتمل. ولا يريد الشعب أن تكون الدولة بين أيدى القلة ولا أن تسمو أى نخبة بامتيازاتها فوق الجميع. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى