التقيته... حيث يعيش هناك فوق الجبل. ثمة أسطورة تروى: أن جبل المقطم انفصل عن المدينة؛ تحقيقا لأمنية أحد الآباء القديسين من القبط، وظل بطلنا قائما هناك فى وحدته..قامة متوسطة، ووجها ريفيا أسمر، يعكس طيبة هؤلاء الفلاحين وأهل القرى، الذين غادروا بلادهم تلبية لدعوة النداهة القاهرة. القاص سعيد الكفراوى الذى قال مرة: «غايتى أن أستحوذ على زمن يضيع»، من يومها والأزمنة تنفلتُ من بين يديه مثل الماء، حتى جلس على النهر يرقُب جريان الماء وانفلات الزمن. لم تكُن وحدته خمولا ودِعة، بل وحدة إبداع متوال أثمر 12 كتابا من القصص والحكايات التى تزخر بالشخصيات والأجواء والمصائر، واللغة هنا هى سقف العالم. وبدءا من «مدينة الموت الجميل»، مرورا ب «سِدرة المنتهي»، و«دوائر من حنين»، و«مجرى العيون»،و«بيت للعابرين»، تقاطعت مجموعاته القصصية جدليا بين الحياة والموت، المكان والزمان، الكهولة والطفولة، الرحيل والإقامة، القرية والمدينة، فى محاولة للقبض على حلمها المستحيل، عبر عالمها الشديد الخصوصية، حيث التقابل بين الجزئى الحِسِّي، والكُلِّى المُجرد. تزخر أعمالك القصصية بالحزن والأوجاع.. فما سبب هذا الحزن الطاغي، وهل الحزن فى أعمالك تجسيدٌ لحالة نفسية ومزاجية؟ لا يوجد فيما أكتب من نصوص استدعاء لحزن، أو تجسيدٌ لألم مُفتعل، ورحم الله أستاذى على الراعى حين وصف هذا الحزن بالتفجع على أحوال الإنسان فى واقع يزخر بالمظالم، عشت كما هو معروفٌ قريبا من حيوات أمضت عمرها على هامش الحياة، ورأيتهم يمارسون العيش تحت وطأة ظروفهم الاجتماعية كما يعيشون تحت سطوة الماضي، فتفجرت من دواخلهم تلك المواويل الزاخرة بالاغتراب والانتظار ومن ثم الحنين، تعبر عن ميراث من حزن قديم. الحزن فى الغالب تعبير عن أحوال مدفوعة من واقع الحياة، وهى فى النهاية تعبيرٌ عن أشخاص عاشت ذلك الواقع. المُشترك بين الكفراوى والريف المصرى الحزن، ومن خلال علاقتك الحميمة بالريف، لعلك تشرح لنا كيف حول الريفُ الحزن إلى فن، وكيف حول الكفراوى ذلك الحزن إلى أدب؟ حزن بعض الشخصيات فى قصصى جزءٌ من توسل تلك الشخصيات للقبض على واقع مُغاير، ومحاولة القبض على زمن أكثر بهجة لا تنفصل الحياةُ فيه عن مفردات ما يعيشه الواقع فى القرية المصرية. وقد عشتُ فى قرية قديمة تنطوى الحياة فيها على قهر السادة، وسطوة من يملكون، فتكوَّن وعيى وسط هؤلاء، وكتبت العديد من القصص عن أحوالهم، وبحكم ميراثى وما عشته فى هذا المكان القديم، حيث أصداء الرحيل والاغتراب، ووداع الراحلين حيث وجه الكريم، وانتماء بالروح لتلك السلالة من البشر، كل هذا جعلنى أحاول على قدر الطاقة تحويل هذا العالم إلى كتابة إبداعية منحتنى العزاء دائما على أن اقترابك من مصدر تجربتك وهى حياة هؤلاء التى يشوبها ميراث من الحزن، تمثل بالنسبة لى معينا لا يغيض من الكتابة. ولأى مدى يختلف الريف المصرى الآن عن الريف الذى غادره الكفراوى وتناوله فى معظم أعماله؟ الدنيا تتغير بسرعة مذهلة، وما كان قائما فى الماضى لم يعد موجودا، لقد حدث فى السنوات الأخيرة من عمر العالم شيء قلب الأعماق، وأصبح يفرض علينا أن ننظر إلى ما جرى بغضب، ونستقبله بغير أريحية، حتى أشكال الكتابة نفسها تغيرت. حتى شكل السؤال، وكما قلت فأنا ابن لقرية قديمة، نشأت وتعلمت فى زمن كان المتعلمون فى القرية أفرادا تعرفهم بالاسم، قرية قديمة كانت تعيش كما يقولون على الستر، الأجور مقسمة بغير عدل، وتبدأ السخرة من دوار العمدة حتى سرايا الباشا، والواقع الاجتماعى يقوم على القهر والعوز، لكن ثمة قيما كانت تشيع فى الواقع، وفى الأحلام كان الناس أسرى لحلم الحرية، وكان هناك نوع من الرضا والتكافل، وأمل فى انتظار المخلص، وكنت أراهم هناك فى تجمعات صغيرة فى الليل حول مصباح يتسامرون بحكايات عجيبة تفتح أمامى السكك، وتطرح أمامى الأسئلة، وكانت الحياة تنهض لمقاومة المجهول، والدفاع عن لقمة العيش، والحفاظ على الميراث من عادات وتقاليد تكاد تكون أسطورية. والآن، أصبحت قرية أخرى، لقد تغير كل شيء بفعل ما جرى من تغيرات فى بنية المجتمع، تغير الإنسان بالغربة، وتغير المكان بالعمارة الشائهة التى حلت مكان القديم، وتغيرت القيم بما جاء من الخارج، ومن صعود الإسلام السياسى واستبدال الفرد نفسه بالأمة، لهذا فأنا لم أعد أفهم مايجرى هناك الآن، ذلك التدفق المالى الذى غير العلاقة بين الفرد والفرد. لقد تركت القرية القديمة، التى عشت فيها طفولتي، وكان تأثيرها كبيرا على ما كتبته لاحقا من قصص انطبعت بإحساسى بطقوس الميلاد والموت، وحيوات كثيرة عشتها: المكان والزمان، الطفولة والكهولة، القرية والمدينة. دعنا نتذكر البدايات معك.. زمن التواجد والتفاعل بين النقائض، وأول لقاءات الدهشة منذ ذلك الزمن البعيد؟ يحكى والله أعلم أننى جئت إلى الدنيا بعد ست من البنات والبنين، ماتوا موتا فادحا فى طفولتهم، وحين اقترب موعد خروجى إلى الدنيا، صرخت امرأة عجوز دارنا ملعونة، يولد فى دار غريبة. وفى ناحية أخرى ولدتنى أمى هناك، وادعوا أننى جئت بنتا فلبست ثوب بنت، وحين حملتنى غريبة تعثرت يدها بأشيائى فأطلقت زغرودة فرحا بالولد. كانت طفولتى تتوزع بين أم رحيمة وجدة مثل حكيم الزمان، طويلة العود، كنت أسمعها حين أحسنت الكلام وهى تقودنى على جسر النهر تصيح أمامي: انظروا لابنى يمشى على قدمين، وتنظر فى عينى وتقول: الرحمة بين الناس عدل.. افهم واللى قبلنا قالوا تبات نار تصبح رماد، وتقول: إياك والخوف، الخوف طبع النسا، وتهزنى بشدة وقد انبح صوتها وتقول: اعتمد على فطرتك فى فهم الأمور والحياة آخرتها الموت. طفولة ذلك الحين كانت تموج بالطقوس والموروث وحكى الكلام وتحويله بقدرة قادر إلى حكايات. طفولة فترة التكوين قال عنها معلمى الراحل محمد عفيفى مطر يوما: «كان قلبى معلقا بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات فى الأعالى، علوه فزع ورعب، وانطلاقاته كارثة احتمالات». كانت قرية قديمة أصابها البدد، وكانت تموج بالطقوس والموروث. والطفولة هنا هى سعيٌ نحو معرفة غائبة، حتى العثور على أول حروف الهجاء فى كُتَّاب شيخ ضرير عرفت من خلاله أن المشقة تغلبها بالكفاح النبيل، وان الحياة تسير بقدر، حتى دفع إليّ ابن خال طيب يعمل مدرسا فى مدرسة ابتدائية بملخص لكتاب بلا غلاف بعنوان «مُختصر لحكايات ألف ليلة وليلة». يومها حين انتهيت منه ركبنى ألف عفريت وعفريت، وانفتحت أمامى السكك، وكانت أول الأسئلة، وانفتح الباب على متاهة أول التعرف على هوامش التكوين وتأمل أحوال الجماعة الغريبة التى تموج بالرموز والمعاني، وتزدحم بالأسرار، ولا يمكن لأى كائن فى العالم التعرف على ظاهرها من باطنها، هذه الجماعة التى أطلقوا عليها من اول الزمان «المصريين». كثيرٌ من الأدباء كتبوا عن الريف المصرى مثل يحيى حقى والشرقاوى وعبد الحكيم قاسم وكتبت أنت، فما أوجه اختلاف ريفُ الكفراوى عن ريف هؤلاء؟ عبد الحكيم قاسم وأنا نعُبُ من معين واحد، ولكن ينشغل عبد الحكيم بالروح الصوفية عند أهل القرية فترى الأولياء والموالد وليالى الحضرة، والمسلمين والأقباط، أما قريتى فتموج بالرموز والإحساس بطول الزمن بلا طائل، ورحلة البحث عن ملاذ، تُلخصنى حكاية رجل بورخيس العظيم الذى رسم العالم وأثث الفضاء بصور الأقاليم، والممالك والجبال والخلجان، والسفن والأسماك والمنازل والأدوات والكواكب والأشخاص، وقبل أن يقضى نحبه بقليل اكتشف ان متاهة الخطوط والصور التى دأب على رسمها كانت ترسم صورة وجهه هو. إن هذا الرجل الذى أفنى عمره ليرسم وجهه هو الإنسان فى زماننا. بينما ريف عمنا كبير المقام «يحيى حقي» ريف صعيدي، تشعر فيه بضربة الشمس المفاجئة، وسطوة الواقع على بشر من جحيم، ومجموعته «أبو فودة» تشهد بذلك. لقد أبحر يحيى حقى عبر عوالم لا تنسى، فهو من استدعى الصعيد الذى عمل به سنوات ليكتشف روحه، وينتج عددا من تلك القصص والروايات.. البوسطجي، وخليها على الله، وأبو فودة، فتكون إضافة لا تنسى عن القرية المصرية. أما الحوشى الأعظم صاحب الخيال والمخيلة العظيمين، «يوسف إدريس»،الذى سعى منذ البداية لاستهداف فضاء قصصى عبر عن روح المصريين، شواغلها وهمومها، هو من نبهنا لتلك المنطقة الغامضة للكتابة عن روح القرية المصرية. رحم الله روح صديقى «إبراهيم أصلان» حين وصف «إدريس»، فتح أفقا لم ينغلق، فكان المثال العبقرى لسرد الحكايات التى تفصح عن دلالتها الجارحة بتلقائية مذهلة، والكاتب الذى ظل حالة ثقافية كاملة، قوامها الكبرياء، والمناكفة، كأنه نوبة صحيان لا تهدأ فى زمن اختلط فيه الطموح بالخيبة والخطايا بالإنجازات. هى قرية تختلف وتأتلف بتعدد رؤى الأماجد من الكتاب الذين تناولوها فى إبداعهم. نزحت إلى القاهرة منتصف الستينيات واستقبلك يحيى حقى استقبالا حانيا.. أخبرنا عن تفاصيل هذا اللقاء وأثره فى نفسك؟ كنا فى ذلك الحين نقيم فى مدينة المحلة الكبرى، فرحين بذلك النادى الصغير للأدب الذى خرّج عباقرة جماعة المحلة الأدبية الأفاضل، ولشغفى بالمعرفة كنت أحضر إلى العاصمة القاهرة، وأنا الريفى قليل التجربة، وكانت تلك المدينة لا تزال تتمتع بما تبقى من ازدهار الحقبة الليبرالية فى المسرح والسينما ووسائط الثقافة الأخرى، وكانت الجمعيات الأدبية تحمل الكثير من الأسئلة عن التحرر الوطني، والدفاع عن قيم الدولة المدنية، وكانت المقاهى الثقافية مثل ريش، ومقهى عبد الله، والمقاهى التى يمر بها المؤسس «نجيب محفوظ» مشهدا ومأوى للعديد من التيارات ومدارس الكتابة، كما كانت مجلة «المجلة» التى يرأس تحريرها «يحيى حقي» سجلا للثقافة الرفيعة، وأذكر أننى طرقت باب مكتب يحيى حقى وأنا الريفى خائفا وجلا، فرفع رأسه وسألني: فيه حاجة يا ابني؟ فذكرت له اسمى وصفتى وأننى قادم من الأرياف البعيدة، ثم بلعت ريقى وتوكلت على الله وقلت له: أنا قاص ومعى قصة أريد أن أنشرها بمجلة «المجلة»، فرجع بظهره وتأملنى ثم سألني: مجلة المجلة ليه يا ابنى هى نشرة سرية؟ أنت اسمك إيه؟ فذكرت له اسمى فقال: أنت يا كفراوى عارف مين يكتب بها؟ فذكرتهم له جميعا بالاسم الشيخ شاكر ولويس عوض وإدوار الخراط ومصطفى سويف وغيرهم، وقبل أن يجيب استعطفته وقلت له أنا جاى من بعيد وقبل أن أكمل نهض وأخذنى من يدى بحنو وقال طيب تعال يا كفراوي، وخرجنا لشرفة المجلة المطلة على شارع عدلي، وقال لى اقرأ، فقرأت كانت قصة بعنوان: «الموت فى البداري» وحين انتهيت، قال لى معجبا : انت يا ابنى حسك جديد فى الكتابة عن الريف، وطلب منى إعطاء القصة لسكرتير التحرير، والمدهش أننى فوجئت بالقصة منشورة آخر الشهر فى تلك المجلة العريقة وكان حدثا لا ينسي. وفى احتفال بعيد ميلاده بأتيليه القاهرة، حكيت نفس الحكاية ففرت الدموع من عينيه وعلق: «فاكر يا كفراوى لما كنت بتيجى مجلة «المجلة» ولابس جلابية بلدي، كانت أيام حلوة والله». هذا شيخ من مؤسسى نهضة الكتابة، خرجنا من ثوبه، وتعلمنا استحضار كتابة تعبر عن البشر الذين نعيش معهم، والذين أحبهم يحيى حقي. أصبحت مقلا فى الظهور والوجود بين الناس كما كنت فى السابق، فما السبب؟ هل حكم السن، أم الشواغل الصحية، أم خشية مواجهة الصخب الآنى وسلوكيات الزحام المؤلمة؟ أولا رحل عن الدنيا من كانوا يحسنون الكلام، ويجيدون الحكايات، تهيأت مرة وارتديت ما على الحبل، وفى وعيى بين الإدراك والتوهان أن «محمد عفيفى مطر» ينتظرنى على المقهى وحين وصلت انتبهت أن مطر رحل عن الدنيا، فعدت من حيث جئت، كنت عندما أضيق بالدنيا أصرخ فى الشاعر الكبير: يا عمنا لقد عشنا أكثر مما ينبغي، فنضحك. رحم الله «أمل دنقل» حين قال: كل الأحبة يرتحلون، فترحل شيئا فشيئا عن العين ألفة الوطن، تغيرت الأشياء وبقى صوت النشيد الأخير، حيث أمعن فى الإصغاء له، غايتى بالوهم أن أستحوذ على زمن يضيع، رحم الله الجميع وكان فى عون الوطن. فى مقهى ريش كنت تلتقى أدباء جيل الستينيات.. فما أهمية الاحتكاك بين المبدعين وثمراته الفكرية الإنسانية؟ سنة 1968 التقيت الفتى جمال الغيطاني، وكان قد نشر قصته «المقشرة» فسألته: أين يجلس الأدباء الشبان؟ قال لى قابلنى هنا يوم الجمعة وأصطحبك معي، قابلته وأخذنى إلى مقهى ريش، كنا نجلس على رصيفه الذى لم يكن على شكله الحالي، ووجدت كل أبناء هذا الجيل يتحلقون حول أستاذنا «نجيب محفوظ»، رأيتهم وعرفتهم، كانت تلك الحركة تمثل الوثبة المضادة فى الكتابة المصرية، وكتبت فى هذا الحين قصصا مغايرة، وحين صرخ أحدهم: «نحن جيل بلا أساتذة»، صدرت مجلة «جاليرى» 68 تحمل شكلا جديدا لأشكال الكتابة، ورؤى جديدة مغايرة واجه بها أصحابها هزيمة يونيو67 التى تنبأوا بوقوعها قبل أن تحدث، وعن هذا الجيل قال د. جابر عصفور وهو ناقد ينتمى لهذا الجيل: «جيل فتح عينيه على وعود الحلم القومي، وصعوده الواعد، لكنه صدهم بالسقوط المدوى لهزيمة 67، فأعلن تمرده على من صنعوا الهزيمة، وثورته على جيل الآباء، مُختطا لنفسه طريقا جديدا أفضى إلى أساليب مغايرة فى الكتابة تنقد الواقع وتعرى خباياه التى قادت إلى الهزيمة. من مقهى ريش وغيره خرجت الكتابة فى الستينيات التى أصغى لها محفوظ، وكانت بداية لميلاد جيل أغنى الأدب العربى بالخيال العظيم». ومن هذا المقهى خرجت مظاهرة كبيرة يوم اغتيال الروائى «غسان كنفانى» بيد الصهيونية، مظاهرة كانت الأولى منذ زمن طويل وعلى طاولات المقهى كُتب «بيان توفيق الحكيم» ضد حالة اللاحرب واللاسلم. ريش بالنسبة لى متحف للذكريات، منذ غنت فى حديقته أم كلثوم وكانت التذكرة بعشرة قروش، ويوم جلس على طاولاته كل هؤلاء الكتاب والفنانين المُعلقة صورهم على حوائطه، ومنذ كان له دورٌ عبر مائة عام فى الحركة الوطنية المصرية، ومنذ سعدت بالجلوس سنوات طويلة حول «نجيب محفوظ»، أستمع منه وأتشرف بوجوده فى الحياة، وبمن التقيت بهم من كتاب وشعراء وأمضيت معهم أياما وتواريخ لا تنسي، مقهى كانت له الفة تستمد دلالتها من مجمل ما يجرى من أحداث، وظل فى الوعى مثل مقاه جلس عليها كتاب وفنانون فى عواصم الدنيا. أما الآن غفر الله للسياحة وغلاء الأسعار ورحيل الناس حيث وجه الكريم! كان الأديب العالمى نجيب محفوظ يُجالس كل فئات المجتمع فلم يكن مجلسه حكرا على الأدباء فقط، فإلى أى مدى يكون الأديب بحاجة إلى معرفة كل تفاصيل زمانه ومكانه؟ نحن نكتب بخبرتنا عن الدنيا، وكلما تعمقت تلك الخبرة بإدراك جوهر ما فى الحياة من تجارب كانت تجربة الكاتب أعمق، وأكثر صدقا، اقرأ حوار محفوظ مع رجاء النقاش؛ لكى تدرك مدى عمق تجربة نجيب محفوظ مع البشر والمكان والزمان، ويحكى الغيطانى أنه لم يوجد مقهى فى القاهرة إلا جلس عليه نجيب محفوظ، الذى طوع مصائر الحرافيش والفتوات لقيم البحث عن العدل، وتأمل اختلاف المصائر. كان تشيكوف وجوركى يستمعان لصوت الضجيج الذى يحدثه تولستوى فى اعتكافه، وحين يسأل جوركى تشيكوف: ما به؟ يجيبه بأنه يتعارك مع الله، ويجمع تولستوى ما كتب عليه فى الدنيا، وما عاشه من تجارب، وما شغله من أفكار ليكتب كتابه بيمينه!! «ألف ليلة وليلة» كان لها أثَّر ظاهر فى اشتعال مخيلتك وإبداعك.. فكيف علاقة الأديب بالتراث؟ وهل تراها ضرورية، أم أن المبدع يجب أن يتخلص من قيود السابقين؟ انشغل أستاذ الأدب المغربى الكبير «عبد الفتاح كليطو» بجوهر السؤال عن ألف ليلة وليلة، فأنفق عمره باحثا عن إجابة عن سرها إلا أنه فى آخر الأمر وجد نفسه يدعو الأموات لإسماع صوتهم والتحدث عن مصائرهم، وأنا حين منحنى مدرس الابتدائى ملخص الليالى وحين قرأته ومن يومها وبداخلى ذلك الصوت الشبيه بالسحر، كل ما روته الحكايات معلق فى القلب من الطفولة حتى اليوم، هى فوق كل تراث، كتاب نبيل فوق كل الكتب، هى مدرسة للحكمة، وحكاياتها غير صالحة للتسلية، كتاب التعدد يسحب خلفه التراث القديم فترى من خلاله كل غامض. هل انتقلت موهبتك إلى أولادك، أم أنهم شقوا لأنفسهم طرقا أخرى؟ «حورس» اكتفى بوظيفة مدنية يخفف بها الألم عن الراغبين فى الشفاء، و«عمرو» فنان تشكيلى وأديب ذائع الصيت، حقق فى مجاله جزءا مهما من حلمه، فسافر إلى خارج الوطن ليتعلم ويستكمل ثقافته على أصول معرفية، وتوجد ثلاث حفيدات، منهن واحدة تعشق التمثيل والفنون، أما كرمة فصامتة تبحث عن طرق تخصها،والثالثة لا تزال تحدق فى الدنيا باندهاش. قلت إن الثقافة المصرية تعيش مشهدا مأزوما .. فما مظاهر تلك الأزمة وسبل الفكاك منها؟ صدقنى كلما تأملت واقع الثقافة المصرية الآن أجده يتسم بقلة القيمة، قال الكاتب المسرحى البريطانى يوما: «انظر خلفك فى غضب»، كأن الثقافة تعيش أزمة المجتمعات العربية، وأزمة غياب مشاريع التعليم الكبري، تأمل سطوة الإعلام المُغيب للوعي، الرهين لصوت الإدارة فى خدمة ما يجري، معارك صغيرة للمثقفين وبغياب القيمة غابت الأصوات الحقيقية، وربما مرضت بالاكتئاب، من الذى تهتم به مصر الآن من شعراء وروائيين ومفكرين خارجين عن الإطار الرسمي، ثقافة لا تكتمل بنياتها ويديرها غرباء عنها، وسط دعوات التنوير والخروج من أسر الماضي، وزمن الفتاوى والتمسح بالدين، وتكفير المخالفين، وتهميش الإبداع الجيد ومصادرته أحيانا، وكل هذا يُغيِّب قيم الدولة المدنية التى نسعى جميعا نحو تحقيق شروطها. لم يكن طه حسين وجيله نقادا أو شهودا، بل كانوا يحرثون الأرض أمام أجيال الكتابة الجديدة بتقديم أفكار الاستنارة والكشف عن جوهر الثقافة الأخرى، والإسهام فى مشاريع تنقل الوطن نحو الحرية والتقدم. أنا أتساءل، ما دور وزارة الثقافة ومجلسها الأعلى الآن؟ ما القضايا التى تشغلهما؟ كيف لتلك المؤسسات تبنى مشاريع الثقافة وتوصيلها للناس مثلما حدث فى الماضى، وربما فى الماضى القريب؟. الثقافة هى الرموز وتراث الأمم وأحلامها، وأنت قدمت دورك التنويرى بها، وقدت المنطقة فى التعليم والفنون بأنواعها، حتى كانت مصر مصدر الإلهام. فما الذى جري؟ كيف خرجنا من تاريخ الفعل الثقافى هكذا؟. مجرد أسئلة وعلينا أن ندرك أنه لا تقدم ولا دور لمصر خارج الثقافة، خارج القوى الناعمة التى عرفت بها مصر، أعرف أن الشروط اختلفت بعض الشيء لكن لا تزال مصر قادرة بتاريخها وشخصيتها أن تستعيد دورها. صدر لك أخيرا الجزء الثانى من حكاياتك الإنسانية وقوبل بحفاوة نقدية.. فما حكاية هذه الحكايات؟ صدر الجزء الأول من سنوات بعنوان «حكايات عن ناس طيبين»، والجزء الثانى بعنوان «حكايات من دفتر الأحوال»، وأنا لا أعرف هل هى حكايات عن زمن أم عن ناس أحببتهم يوما ما ومضوا، حكايات عن الوطن، وعن ناس أجلاء أغنوا وجدانى بالمعرفة، وشحذوا خيالى بأجمل النصوص، فوكنر وبورخيس وتشيكوف ونجيب محفوظ وغيرهم، وأصدقاء كتاب وفنانين أمضيت عمرى معهم نفعل ما نستطيعه فى الثقافة العربية إدوار الخراط، ومطر وأصلان، وسليمان فياض، وناس كتبوا عبر التخيل ليطرحوا أسئلتهم على الدنيا وعبر الزمن، قالت أستاذتى الناقدة الكبيرة «سيزا قاسم» عن أحوال تلك الحكايات: «إن الإبحار فى ذاكرة الكفراوى هو رحلة فى ذاكرة الوجود، فلقد استطاع فى هذا الكتاب الجميل أن يخطو الخطوة الفاصلة ليجتاز ذاكرته الفردية ويدخل من البوابة الكبرى إلى الذاكرة الجماعية، ذاكرة أهل زمانه والأزمنة السابقة عليه والآتية». وماذا عن شهر رمضان فى حياتك؟ منذ الطفولة كان لرمضان الحضور الأسمى فى الضمير، كتبت عنه القصص، وجسدت أيامه التى لا تنسى مزهوة بالأحلام وبنور الفوانيس والحضرة فى مسجد أبوحسين، وصوت طبلة السحور تدق فى الليل فتمتلئ قلوبنا طمأنينة ويعلو وجوهنا البشر فرحا بالمسحراتي، شهر تقف على مشارف انتهائه بهجةُ العيد، شهر من عام لا ينقضي، تمر السنوات وهو باق فى روح الأمة مثل الدين، ذاكرة لا تنمحى بعاداته وتقاليده وذكرياته.