العنوان الكامل لكتاب الأستاذ رجائى عطية هو «تجديد الفكر والخطاب الدينى» وقد صدر عن دار الشروق فى هذا العام. والكتاب ضخم الحجم يقارب أربعمائة صفحة من القَطْع الكبير، وهو موسوعة شاملة، ومدخل بالغ الأهمية للفكر الدينى الإسلامى والشريعة الإسلامية على السواء. ويتميز الكتاب بعدة ميزات تجعل له مكانة متميزة بين الكتب التى هى من هذا النوع. فصاحبه يبدو كما ولو كان الوريث المخلص لإرث عباس محمود العقاد الذى ترك لنا إسلامياته المعروفة التى منها «التفكير فريضة إسلامية» و»حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»، و»العبقريات» الإسلامية و»الديموقراطية فى الإسلام» و»الإسلام فى القرن العشرين» و»ما يقال عن الإسلام». ................................ ومن المؤكد أن هذا الكتاب يمثل النزعة العقادية فى الفهم والتفسير والخطاب الموجَّه إلى القارئ. وهو الأمر الذى يجعلنى أعد هذا الكتاب من أفضل المداخل العقلانية الوسطية إلى فهم الإسلام فقهًا وشريعة. وهو الأمر الذى يضع الكتاب فى مرتبة رفيعة من حيث اعتماده على التفكير الإسلامى المستنير، ومن حيث التنوع والشمول مما يجعلنى أُزكِّيه لدى وزارة التربية والتعليم لكى يكون أحد الكتب المقررة على طلاب المدارس فى المرحلة الثانوية، أو على الأقل يكون متوفرًا فى مكتبات المدارس الثانوية لكى يقرأه الطلاب، ويكون هذا الكتاب مدخلهم إلى معرفة الفكر الإسلامى بمعانيه الرحبة ووظيفته السمحة، بوصفه مدخلًا إلى الفكر الدينى الإسلامى، ودفاعًا عنه ضد خصومه أو المُتشككين فى بعض أفكاره. ويزيد هذا الكتاب قيمة أنه ينطوى على أفضل دفاع عن موقف الإسلام من الثقافة، وكذلك رحابة الإسلام التى تسمح بكل ما يبعث البهجة فى عوالم الإسلام، فيبيح الكتاب الإنتاج المسرحى والسينمائى والموسيقى والفنون الجميلة على السواء. ويبقى فى النهاية أن هذا الكتاب يتصدى لكل التحديات المعاصرة التى تهدد وجودنا جميعًا بوصفنا مسلمين. ومن المؤكد أن السماحة الفكرية التى ينطوى عليها هذا الكتاب الذى يمثل أو ينطق باسم موقف إسلامى وسطى بكل معنى الكلمة، وهو الأمر الذى يجعله يتصدى للأفكار السلفية الوهابية تصديًا حاسمًا، واضعًا السلفية الجامدة فى مكانها الصحيح، خصوصًا فيما كتبه عن التقدم إلى الخلف، ولذلك لا أتردد فى وصف هذا الكتاب بأنه كتاب عقلانى، لا يقبل الجمود فى فهم الإسلام، ويسعى إلى تحريره من قيود متطرِّفيه، وغُلاة المتعصبين له، أو أنصار النَّقل الجامد، أو الفهم الحَرْفِى للنصوص. وكلها صفات تؤكد أن الكتاب عمل تنويرى بكل معنى الكلمة. ومن هذا المنطلق ينبغى أن نحتفى به. ولكن احتفائى بهذا الكتاب احتفاء من نوع خاص، فأنا أرى أن الاحتفاء الحقيقى لكل كتاب هو بمناقشته وبمساءلته. وتبدأ مُساءلتى للكتاب بالسؤال: عن أى إسلام يتحدث؟ هل هو يتحدث عن الإسلام فى تفسيره السُّنِّى الذى يعتمد على فقه السُّنة المعتدلة التى تضع الوسطية فى اعتبارها، وذلك بالقَدْر الذى يدفعها دفعًا إلى الوسطية التى لا تعرف الإفراط والتفريط. والحق أن الكتاب لا يخرج عن هذه الدائرة السُّنِّية إلى غيرها من الدوائر والمذاهب أو الفِرق الإسلامية التى عرفها المسلمون، وبخاصة المذاهب التى تُغاير مذاهب وطوائف أهل السنة، فهناك المعتزلة الذين يمثلون الفِرق الإسلامية، فى مقابل الأشاعرة أو الفلاسفة المسلمين الذين كانت لهم طرائقهم المعروفة فى فهم الإسلام وتأويل نصوصه، وهذا أمر يدفعنا مجازًا - إلى الحديث عن إسلامات متعددة بتعدد تفاسير أو تأويلات الفِرق والمذاهب الإسلامية. وقد كتب القدماء عن مذاهب الإسلاميين كما فعل الأشعرى، وما كتبه الشهرستانى عن «المِلل والنِّحل» الإسلامية، وهذا أمر لا يجعلنا إزاء تفسير واحد للإسلام، وإنما إزاء تفسيرات متعددة أو تأويلات مختلفة للإسلام. وما أبعد الفارق - الذى يصل حد التضاد - بين الفكر الاعتزالى والرشدوى (نسبة إلى ابن رشد) من ناحية، والفكر الحنبلى المتشدد من ناحية مقابلة. وظنى أن الأستاذ رجائى عطية لو كان قد خرج من الإجماع السُّنِّى للمذاهب الأربعة السائدة فى الأزهر مثلًا، لكان قد راجع نفسه أو على الأقل وضع مبدأ «الإجماع» موضع المساءلة. وقد سبق أن تعرض عدد من المعتزلة وبعض الفلاسفة لهذا المبدأ، فأنكر إبراهيم بن سيار النَّظّام المعتزلى - مثلًا - مبدأ «الإجماع» بمعناه السُّنِّى، وقال كما قال غيره من بعض الفلاسفة: إنه ليس من المُحتَّم ألا تجتمع الأمة على باطل، فقد تُجمع الأمة على باطل أحيانًا، وهذا هو ما يدفعنا إلى التساؤل عن هذا الإجماع فى ذاته من حيث هو مبدأ يمكن على المستوى السياسى أن يكون تبريرًا للطغيان الذى ينتهى بإجماع مصنوع أو «مُفَبْرك» على ما لا يمكن الإجماع عليه. والطريف أن الأستاذ رجائى عطية فى بعض صفحات كتابه (329-328) يأسى على عدد من الاجتماعات التى يقيمها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء والأزهر الشريف بهيئاته وجامعة الأزهر بمعاهدها وكلياتها وأساتذتها، وفى السعودية رابطة العالم الإسلامى، ونظائر لكل التجمعات والهيئات، وهؤلاء جميعًا قادرون على طرح القضايا والمشاكل، وتجميع البحوث وتبادل الرأى على مستوى علماء العالم الإسلامى المجتهدين لوضع الحلول والأحكام من واقع القواعد الكُليَّة والأصول والمبادئ التى أوردها القرآن المجيد، وعضدتها السنة النبوية المطهرة. «ومن الغريب اللافت أن هؤلاء جميعًا يجتمعون بالفعل فى أكثر من مؤتمر إسلامى كل عام... ولكن دون أن ينتقلوا بذلك إلى رصد وتجميع يصح أن يقال إنه قد تحقق به أو لم يتحقق - إجماع يضيف إلى الفقه الإسلامى، ويجدد فى الشريعة ما تلاقى به قضايا اليوم ومستحدثاته، ماذا يقول علماء الإسلام المجتهدون... بالنسبة إلى الفارق بين الانتحار والاستشهاد؟ وما الرأى بالنسبة إلى الموقف الذى على المسلمين أن يتخذوه حيال الغُزاة الذين ينتهكون قُطرًا من أقطار الإسلام؟ هل التعاون مع هؤلاء الغزاة مباح أو غير مباح يرفضه الدين ويأباه؟ وما الحل حين تشجر المعضلات والحروب أحيانًا بين قُطرين أو أكثر من أقطار العالم الإسلامي؟ ماذا على جموع المسلمين أن يتخذوه؟ وما موقف الدين من الفوائد المصرفية وصناديق التوفير وشركات أو عقود التأمين؟ وكلها قضايا عصرية طال فيها الجدال وتحتاج إلى حُكْم إجماع يرتضيه ويطمئن إليه جمهور المسلمين. ما حكم الدين فى الشورى الآن فى زماننا؟ وما الذى تبيحه أو لا تبيحه المبادئ العامة التى وردت فى القرآن المجيد والسنة النبوية عن الشورى، تاركة للمسلمين تحديد أُطُرها وتفاصيلها ومعالمها ومعطياتها تبعًا لتغير ظروف الزمان والمكان؟...». وهذه كلمات تعترف صراحة بأن موضوعات كثيرة لا يستطيع علماء الإسلام من ذوى الرأى والحكمة أن يُجمعوا عليها، فالسياسة والمصالح تعكِّر على مبدأ «الإجماع» وتنتهى بالعلماء إلى الفُرقة والتناحر والاختلاف. ولهذا نجد أن أهل السُّنة يُلحُّون على الإجماع بوصفه مصدرًا من مصادر التشريع، بينما يُشكك غيرهم فى هذا الإجماع بوصفه مصدرًا من مصادر التشريع، ويرون أنه لا سبيل إلى الإجماع فى كل القضايا. خُذْ مثلًا - مشكلة تصوير الأنبياء فى أفلام سينمائية، سنرى أن الشيعة الاثنى عشرية فى إيران يبيحونها، بينما يرفضها الأشاعرة، وهم أصحاب المذهب الذى ينحاز إليه أزهر هذا الزمان، ويكاد لا يفارقه إلى غيره. وهو الأمر الذى يتابعه الأستاذ رجائى عطية الذى يعالج موضوع «الإجماع»، بوصفه خبيرًا لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومن ثم فهو لا يخرج عن آراء الأزهر فى مسألة «الإجماع» هذه مع أنها مسألة يمكن الاجتهاد فيها، أو على الأقل وضعها موضع المُساءلة، خصوصًا أن مِنْ السابقين المُعتبَرين فى تراثنا الإسلامى مَنْ شككوا فى مسألة «الإجماع» هذه، كما يشهد على ذلك التاريخ الإسلامى الذى لم يعرف الإجماع بعد قتل عثمان بن عفان. والأمر الثانى الذى أريد أن أضعه موضع المساءلة فى الكتاب، هو الوضع الخاص بالمرأة. مؤكدٌ أن الأستاذ رجائى عطية قد أنصف المرأة إلى حد كبير، ولكن يبقى السؤال، نحن نسمح للمسلم أن يتزوج من كتابية، ولكننا نبرر ذلك بأن المسلم سيرعى حقوق هذه الكتابية؛ لأن دينه يقر ديانة الكتابية ويعترف بها، ولذلك فإنه يرعى حقوقها ويعاملها معاملته للمسلمة تقديرًا لدينها الذى يعترف به دينه، ولكن ماذا عن العكس، وهو إعطاء الحق نفسه للمسلمة؟ هنا يتوقف مشرِّعو الأزهر عن الموافقة، وذلك بِحُجَّة أن الكتابى لا يعترف بالإسلام ولا يُقدِّر حقوق المرأة؟ ولكن لماذا ننسى البُعد الإنسانى للقضية، والذى يتمثل فى أن هناك مسلمين لا يتعاملون مع المرأة على أساس من الإسلام، وإنما يعاملونها معاملة العبيد أو أسوأ كما يفعل أتباع ابن تيمية على سبيل المثال، وهو من أشد الناس تعصبًا ضد المرأة ومكانتها، وماذا عن الأحاديث المكذوبة فى الغالب، سواء من المنسوبة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) أو صَحابَتِه، والتى تتحدث عن المرأة بوصفها حليفة للشيطان، وأحد جنوده الذين لا هَمَّ لهم إلا إفساد الحياة، أو عورة ينبغى سترها، وعدم الاعتراف بحضورها المُستقل. ومن هنا كثُرت الأحاديث الموضوعة فى ذم المرأة والتحقير من شأنها. ويحدث ذلك إلى اليوم فى تيار من التيارات التى تعترف به الدولة، وتسمح له بإنشاء أحزاب على أساس دينى، وهو الأمر الذى يرفضه الدستور. يبقى الأمر الأخير الذى أريد أن ألفت الانتباه إليه، وهو عدم موافقتى على كلمة «الخطاب» التى وردت فى عنوان الكتاب، وقد حاول الأستاذ رجائى عطية أن يقنعنى بأنها تشير إلى الشكل اللغوى للفكر، ولكنى أخشى أننى لم أقتنع تمامًا بتبريره، وأنه كان يتحدث عن التجديد فى الفكر وليس عن الخطاب الدينى، فكلمة «الخطاب» تشير إلى مصطلح له دلالة خاصة فى العلوم اللغوية والإنسانية على السواء، وهو ترجمة لكلمتى «Discourse» و Discours»» ولها معانيها التى أسسها علماء أجانب من أمثال ميشيل فوكو وغيره من العلماء الذين أصبح لهم نظريات عديدة الآن فى تحليل الخطاب، وأُحيل هنا إلى المرجع الأهم فى اللغة العربية، وهو «معجم تحليل الخطاب» الذى ترجمه عبد القادر المهيرى وحمادى صمود، ونشره المركز الوطنى للترجمة فى تونس 2008، وهو معجم يعرض لكل المذاهب الفكرية والمدارس التى تتجمع حول مصطلح الخطاب. وهى المذاهب والمدارس التى أخذنا نعرفها ونستخدمها بمعانيها المعاصرة والتى لا يقصد بها مجرد الشكل اللغوى للفكرة وإنما الفكر من حيث هو فعل لغوى، ولذلك فإن كل ما يكتب باللغة العربية تحت عنوان «الخطاب» يجب أن نعيد النظر فيه ونحترس من وضع المصطلح الأصلى فى غير ما وُضِع له. وقد سبق لى أن كتبتُ عدة مقالات بعنوان «خطاب الخطاب» فى جريدة الحياة اللندنية (نُشِرت الفترة من 1/5/1995 إلي8/5/1995). يبقى شيء أخير لم يتوقف عنده الكتاب كثيرًا مع أهميته، وهو تزييف الأحاديث ونسبتها إلى الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - لأسباب سياسية وعقائدية تأويلية واجتماعية على السواء. والحق أن كل المذاهب الإسلامية أو على الأقل أكثرها، لجأت إلى نَحل الأحاديث وتزييفها ونسبتها إلى النبى الكريم، ولذلك السبب كثُر شك المسلمين فى الأحكام الفقهية التى تعتمد على تأويلات لأحاديث مشكوك فى صحتها، وذلك الأمر الذى جعل بعض المسلمين يكفُّون عن الاعتماد على الأحاديث مَخافة أن تكون أحاديث ضعيفة أو منسوبة إلى النبى نسبة زائفة، وقرروا الاعتماد على القرآن فحسب وأُطلِق عليهم أو أطلقوا على أنفسهم اسم القرآنيين، وقد قام المتشددون من فقهاء أهل السنة بتكفيرهم، هذا فى الوقت الذى أكد فيه الإسلام حق الخطأ، مع أن هؤلاء قد اجتهدوا اجتهادًا قد يكونوا قد أصابوا فيه أو أخطأوا، لكن مبررهم هو الحرص على نقاء العقيدة، ولذلك فلهم أجرهم لو أخطأوا، ويضاعف لهم الأجر لو أصابوا، ومن ثم فإن تكفير الأزهر لهم وفصل بعضهم من عمله، إنما هو عمل ينافى تقاليد الإسلام وسماحته الفكرية ووسطيته فى آن. أعنى بذلك الإسلام الذى دفع مالكًا وتابعه الشيخ محمد عبده - إلى أن يقول: «إذا ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا ويحتمل الإيمانَ من وجهٍ واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حَمْلُه على الكفر». ولذلك قال الإمام الشافعي: «رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب». هذه الروح السمحة هى التى تجعلنى أتعاطف مع الذين يجددون الفكر الإسلامى بأن يؤكدوا معانى التسامح مع محاولات تجديد الفكر الدينى الذى لن يتجدد إلا إذا تميزنا بالمرونة الفكرية التى تجعلنا نحترم ونؤكد حضور ما كان يسميه طه حسين «حق الخطأ»، وهو حق إسلامى أصيل يعتمد على حديث صحيح من نبينا العظيم الذى أباح الاجتهاد وطالب المسلمين بأن يجتهدوا، فيترك لهم الحديث الصحيح الذى يقول: « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، وهو حديث يأمر بالاجتهاد وينهى عن الحَجْر عليه، ورحابة الصدر إزاء كل تجديد. ورحابة الصدر هذه هى واجب إسلامى أصيل، وصفة من صفات الإسلام التى ينطقها أغلب الأزهريين بألسنتهم ولا تصدِّقها أعمالهم. ولحسن الحظ فالأستاذ رجائى عطية ليس من هؤلاء؛ لأنه مفكر إسلامى يعرف التسامح ويعرف معنى السماحة فى الإسلام. ولذلك فإنى أختم بتقديرى لكتابه، تأكيدًا لمكانته الفكرية التى تستحق كل اعتزاز واحترام، فهو مفكر إسلامى أصيل وكبير بكل معنى الكلمة. (وللمقال بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور;