فى صباح الجمعة الأسبق، وأنا ألقى النظرة الأولى على العناوين والأخبار المنشورة فى الصحف أتخير ما سوف أبدأ بقراءته، فوجئت بالحوار الذى دار حول اللغة بين الدكتور حسين الشافعى رئيس المجمع اللغوى وبين «الأهرام» فاستبشرت خيرا. لأنى أكتب عن اللغة منذ أكثر من شهرين وأتحدث عن الأخطار التى تواجهها وعن المصير الأليم الذى ينتظرها وينتظرنا معها إذا ظللنا نتصرف تجاهها بهذه اللامبالاة وبهذا الشعور المنعدم بالمسئولية. وخلال هذا الحديث الذى واصلته طوال الأسابيع العشرة الماضية تعرضت للوزارات والهيئات المسئولة عن حماية اللغة العربية ورعايتها، ومنها وزارات التعليم والثقافة، وأجهزة الإعلام، ومجمع اللغة أسأل المسئولين فيها، ولا جواب. وأنادي، ولا حياة لمن تنادي! حتى يئست أو كدت أيأس، ولم تعد بى رغبة فى مواصلة الحديث، وإذا «بالأهرام» تنشر هذا الحوار الذى قرأته بعناية واهتمام فلم أجد فيه مما كنت أنتظره وأتمناه إلا حديث الدكتور الشافعى عن قانون أعده المجمع وسماه «القانون الشامل لحماية اللغة العربية فى مصر» وقدمه إلى الجهات المسئولة فى الدولة ليناقشه البرلمان فى دورته الجديدة ويصدق عليه. ولا شك فى أن هذا القانون لو صدر سيكون خطوة إلى الأمام فى حماية الفصحى ورعايتها، لأنها ستصبح به إلزاما قانونيا وواجبا وطنيا نؤديه ونعمل به فى كل شئون حياتنا، ولكن بشرط، هو أن تكون الخطوات السابقة على الحماية قد تحققت. أقصد أن تكون اللغة التى نريد حمايتها حية قادرة على تلبية الحاجة إليها فى المخاطبات والمكاتبات، فى التعليم والاعلام والإبداع الأدبى والفنى وفى النشاط السياسى والاجتماعي. وإلا فكيف تكون الفصحى والعمل بها قانونا ملزما فى مجتمع مازال الأميون فيه يعدون بعشرات الملايين؟ وكيف تكون الفصحى قانونا ملزما وهى تتراجع وتفقد الكثير من طاقاتها وتفسد حتى على ألسنة المتعلمين وحتى على ألسنة الذين يشتغلون بتعليمها والتأليف بها؟ أريد أن أقول إن هذا القانون الشامل لحماية الفصحى لن يكون فاعلا مؤثرا إلا إذا كانت الفصحى حاضرة. والواقع أنها الآن غائبة أو مغيبة. ونحن إذن فى حاجة لأكثر من هذا القانون. نحن فى حاجة لنهضة شاملة تستعيد فيها اللغة الفصحى حضورها وحيويتها محتمية بهذا القانون الذى نتمنى أن يناقش بجدية وموضوعية ليكون عملا جادا بناء وليس مجرد شكل أو مظهر نصفق له ونعفى أنفسنا من الاهتمام بما سيكون وراءه. هذه الموضوعية التى نتمنى أن يتحلى بها الذين سيناقشون القانون فى البرلمان وخارج البرلمان نفتقدها حين نقرأ ما يقوله الدكتور حسن الشافعى عن اللغة والأخطار التى تواجهها والمؤامرات التى تحاك ضدها. انه ميال لتبرئة النفس واتهام الأوروبيين واعتبارهم مسئولين عما أصابنا فى اللغة وفى غير اللغة. هو لا يتحدث عن تدهور مستوى التعليم فى مدارسنا وجامعاتنا. ولا عن سوقية الاعلام التى تصل فى بعض الأحيان إلى حد لا يحتمل. ولا عن تهرب بعض المسئولين أو أكثرهم من الكلام بالفصحى واستسهالهم الحديث بالعامية. لأن الفصحى تفرض على المتحدث بها، خاصة حين يكون مسئولا، قدرا من الالتزام بما يقوله فيها، على حين يتسع صدر العامية للغو والهذر أقول إن الدكتور الشافعى لا يشير إلى هذه الحقائق التى تسببت فى تراجع الفصحي، وإنما يعفى نفسه من هذا الحديث الذى يتطلب قدرا كافيا من الصراحة ليتحدث عن العولمة، كأن العولمة هى المسئولة عن أمية الأميين فى بلادنا، وعن جهل الجهلاء وعن وجود العامية وتحويلها من رافد للفصحى إلى بديل. والعولمة كما نعرف هى هذه التطورات السياسية والاقتصادية والتقنية وهى هذه الثورة التى شهدتها أجهزة الاتصال وانتقال المعلومات التى قربت بلاد العالم بعضها من بعض وفتحت حدود كل دولة على الدول الأخرى فأصبح العالم كله كأنه بلد واحد أو قرية كبيرة كما يقال. فإذا كان لهذا التقارب وهذا التداخل أثر سلبى على بعض البلاد فالسبب هو تخلف هذه البلاد وتطفلها واعتمادها على غيرها وعدم قدرتها على حماية نفسها والدفاع عن مقومات وجودها، واللغة من أهم هذه المقومات. وإذا كانت العولمة واقعا جديدا لم نعرفه إلا منذ عقود فنحن نعرف العامية فى الوقت الذى عرفنا فيه الفصحى التى لم تستطع أن تفرض نفسها فى مصر إلا بعد أن دخلت فى صراع مع اللغة المصرية القبطية تفاعلت فيه اللغتان وكانت العامية ثمرة لهذا التفاعل. والعولمة إذن بريئة من التهمة التى رماها بها الدكتور الشافعي. فإذا كان الدكتور الشافعى يشير فى حديثه عن العولمة إلى أننا ندرس العلوم الحديثة باللغات الأجنبية ويرى أن العولمة هى التى تضطرنا لذلك وتحول بيننا وبين تدريس هذه العلوم بالعربية فهو فى هذا أيضا غير محق، لأننا ندرس العلوم الحديثة باللغات الأجنبية قبل العولمة وقبل أن تظهر هذه الكلمة فى أى لغة أو تجرى على أى لسان. والسبب أن الكشوف العلمية والبحوث والمراجع الأساسية والأجهزة المستعملة لاتزال إلى اليوم أجنبية. ونحن لا نقوم بأى محاولة منظمة ممنهجة لتعريبها كما فعلنا فى بعض العلوم الإنسانية ومنها القانون الوضعى الذى أصبح لنا فيه تراث عربي. وقد عرّب السوريون ما يحتاجون إليه من مراجع الطب الذى يدرسونه بالعربية، والعولمة لم تمنعهم من ذلك. لكن الدكتور الشافعى الذى يتهم الأوروبيين بفرض أنفسهم علينا وإحلال لغاتهم محل لغتنا يواصل كيل التهم لهم فيقول إن أوروبا لا تريد إلا الاستعلاء ولا تعترف بدينها للعرب. وهذا تعتيم لا نستطيع أن نقبله أو نفهمه من رجل يجلس على مقعد لطفى السيد وطه حسين ويمثلنا ويمثل ثقافتنا القومية. صحيح أن فى أوروبا تيارات فاشية ونزعات معادية للعرب والمسلمين. لكن هذه التيارات لاتزال هامشية، وهى تتغذى بالتيارات المماثلة لها عندنا وتتعلل بما تفعله جماعات الإسلام السياسى ومنظماتها الإرهابية لتثير الأوروبيين وتحرضهم علينا. غير أن الأوروبيين العقلاء مازلوا هم أصحاب الكلمة النافذة. وهم الذين استضافوا اللاجئين السوريين فى ألمانيا. وهم الذين عينوا المغاربة وزراء فى فرنسا. وهم الذين انتخبوا الباكستانى المسلم عمدة للندن. ليتنا نجاريهم! وليتنا نتعلم منهم! لمزيد من مقالات بقلم . أحمد عبدالمعطى حجازى